
للمرّة الأولى منذ قرّروا الاتحاد اقتصادياً، ثم تطوّرت طموحاتهم إلى الرغبة بتكوين فضاء سياسي، يجد الأوروبيون أنفسهم في خطر مصيري أمام وحش بوزن دونالد ترامب. عشرة أيام من ولايته أوصلت إلى الأوروبيين الرسالة الخاصة بهم: لا أصدقاء لأميركا يرأسها الرجل بل مجرد زبائن، أو أراضٍ حلالٌ سرقتها، كحال غرينلاند، وإلا فمجموعة أسواقٍ، إن لم نكسب منها مادياً، نقدمها هدية لقوى طامعة مثل روسيا مقابل بضاعة أخرى تقدمها هي لنا في قطاعات أو أماكن أخرى، كأي مقايضة بين عصابتين تتفقان على تقاسم النفوذ واحترام مناطق سيطرة كل منهما.
كُثر أصابوا بتوقعهم أن تكون روسيا والصين بهذه الدرجة من الراحة تجاه رجل الصفقات في واشنطن. حديثُ فرْض تعريفات جمركية تصل قيمتها إلى 50% على بضائع الصين تراجع لمصلحة تبادل رسائل إيجابية ووعود بلقاءات قريبة وعقود وفيرة. أما على خط الكرملين ــ البيت الأبيض فالأجواء أكثر حرارة، ويزداد الترجيح أن تكون حرب أوكرانيا واحدة من بنود صفقة إحدى عقباتها إصرار ترامب على تخفيض سعر النفط، حيلة الاقتصاد الروسي وفتيلته.
وسط هذه الوجبة السياسية الأشبه بالسَّلَطة، تكتسب صرخة رئيس الحكومة الفرنسية (الرابع في غضون عام) فرانسوا بايرو يوم تنصيب الرئيس الأميركي كل معناها، عندما يقول إنه ينبغي على فرنسا وأوروبا الوقوف في وجه ترامب وسياساته، وإلا فستواجه “السحق” و”سوف نصبح مهمشين”. ولمقاومة شبح الزوال كقوة سياسية واقتصادية، لدى الأوروبيين حلّ سهل نظرياً: إتمام وحدتهم السياسية، أي إحياء فكرة وينستون تشرشل عن “الولايات الأوروبية المتحدة”، وقد كان ذلك ممكناً لو لم يسقط الدستور الأوروبي مطلع الألفين في فرنسا وهولندا وإسبانيا ولوكسمبورغ. الحل النظري من شأنه أن يحوّل الدولة المتخيلة وسكانها الـ450 مليوناً، إلى ثالث أكبر اقتصاد في العالم مع 16 تريليون دولار من إجمالي الناتج المحلي، بعد الصين (18 تريليوناً) وأميركا (28 تريليوناً). الدولة المتخيلة إياها ستكون نووية، ديمقراطية وليبرالية، بمساحة جغرافية توازي نصف مساحة كل من أميركا والصين (حوالي 4.5 ملايين كيلومتر مربع)، بثروات وقدرات كبيرة يصبح لها معنى في ظل وحدة سياسية، بجيش أوروبي يستطيع، مع بريطانيا وكندا المهددة وجودياً بدورها من ترامب، أن يستقل عسكرياً ومادياً وتسليحاً عن واشنطن، وأن يحظى بإنفاق أكثر من 5% من موازنة الدولة الأوروبية المتحدة، بما أن الزمن للأسف زمن ترامب وبوتين وأشباههما.
لكن هذا كله خيال علمي، ذلك أن الفكرة الأوروبية تعيش أسوأ أيامها في عهد صعود اليمين المتطرف والشعبويين. فأعضاء نادي الترامبيين القوميين الكارهين للاتحاد، يتزايدون سنة بعد سنة في العواصم الـ27. إيطاليا والمجر وهولندا وفنلندا وسلوفاكيا يحكمها يمين متطرف وشعبوي قومي صديق لترامب ولإيلون ماسك، والسويد حكومتها يدعمها النازيون الجدد وإن كانوا لا يشاركون فيها. ثم لديك دزينة بلدان يحل فيها الفاشيون ثاني أو ثالث قوة سياسية كفرنسا وألمانيا. ثم هناك معسكر أوروبي يفضّل تفادي المواجهة مع ترامب والانحناء للعاصفة لأربع سنوات ريثما يغادر البيت الأبيض مع تعويل على عودة الديمقراطيين للسلطة في واشنطن عام 2028. معسكر تمثله رئيسة الحكومة الدنماركية ميتي فريديركسن وهو ما برز في مواقفها “الجبانة” تجاه مجاهرة ترامب برغبته في الاستحواذ (شراءً أو بالقوة العسكرية) على جزيرة غرينلاند. “جبانة” يسندها “جبان” آخر كذلك المستشار الألماني أولاف شولتز.
لقد وُفقت مجلة بوليتيكو الإلكترونية عندما كتبت أن ترامب يعرض على أوروبا معادلة خاسر ــ خاسر بتخييرها بين الخضوع أو المواجهة. ستكون خاسرة ــ خاسرة بالفعل إلا إذا كان أحد أعلام الجيوبوليتيك في فرنسا دومينيك مويسي محقاً بقوله إن “أوروبا كاتحاد، آخذة في إدراك أنها لا ينبغي أن تكون موجودة من دون أميركا، بل في مواجهة أميركا، وإلا فضدّ أميركا”.
المصدر: العربي الجديد
قراءة موضوعية للجيوسياسي الأوروبي، الأنظمة الأوروبية تعيش أسوأ أيامها في عهد صعود اليمين المتطرف والشعبويين، ومجيئ “ترامب” الرئيس الأمريكي، سيعرض على أوروبا معادلة خاسر ــ خاسر بتخييرها بين الخضوع أو المواجهة. وستكون خاسرة ــ خاسرة.