
تمثل مدينة رفح، بموقعها الجغرافي والجيوبوليتيكي، مرة أخرى منعطفاً مفصلياً في الحرب الإسرائيلية على غزة. وكانت رفح قد مرت بالحالة نفسها في أيار/ مايو العام الماضي، ولكن للأسف، لم يتم التعاطي بمسؤولية وجدية مع خطط إسرائيل لاجتياح المدينة، بل على العكس جرى التعاطي مع التهديدات الإسرائيلية بخفة وسطحية وضيق أفق وقصر نظر وبما لا يتلاءم مع شراسة الحرب واتضاح النوايا الإسرائيلية تجاه غزة وأهلها. والآن، يتكرر المشهد نفسه، وللأسف أيضاً، دون اكتراث أو تعاطي فلسطيني مسؤول وحكيم مع محاصرة المدينة وعزلها عن محيطها، والتهديد باجتياح ومحاصرة أحد أهم وأكبر أحيائها “تل السلطان”، ومع الأخطار السابقة، ثمة تهديد إضافي ذا طابع جدي وخطير واستراتيجي، يتمثل بتهيئة الظروف أمام تنفيذ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير أهل غزة، والتي باتت خطة إسرائيلية بامتياز مع تشكيل إدارة رسمية للإشراف على التهجير القسري وإظهاره طوعياً، وهو تحوّل غير مسبوق بالدولة العبرية حتى مع خطط الترانسفير العديدة السرية والعلنية في غزة والضفة الغربية وفلسطين التاريخية بشكل عام.
بداية، لا بد من التذكير بأهمية رفح الاستراتيجية باعتبارها البوابة الجنوبية للقطاع ويمثل معبرها المنفذ الوحيد للغزيين على المحيط العربي (مصر) و العالم الخارجي، إضافة إلى مزايا المدينة التاريخية السياحية والاقتصادية والزراعية، علماً أنها كانت منطقة حرة في زمن الإدارة المصرية في ستينيات القرن الماضي، ومع شهور الحرب الأولى وأوامر التهجير الإسرائيلية في الشمال ثم خانيونس، احتضنت المدينة مليون ونصف نازح على الرغم من الضغط الأميركي في عهد إدارة الرئيس جو بايدن للتخلي عن العملية العسكرية فيها إفساحاً بالمجال نحو إنهاء الحرب، واستمرار فتح المعبر وتدفق المساعدات الإنسانية للمدينة والقطاع بشكل عام.
“يدخلو رفح ويخلصونا“
وفي السياق، لابد من التذكير إن المشهد في رفح في أيار/ مايو الماضي، مثّل نقطة مفصلية في الحرب برمتها، مع التهديد الاسرائيلي باجتياح المعبر ومحور فيلادلفيا، حيث تم التعاطي بخفة وسطحية مع رد أحد القيادات في حماس بالقول: “يدخلوا رفح ويخلصونا”، بينما قال قيادي آخر: “شو بدهم يعملوا برفح أسبوعين وبطلعوا” بينما اجتاحها الاحتلال واحتل المعبر والمحور خلال أيام قليلة ودمر المدينة بشكل شبه كامل حيث أعلنتها البلدية منكوبة مع تهجير أهلها والنازحين وحصرهم بمنطقة إنسانية (المواصي)، بين رفح وخان يونس. ومع إغلاق المعبر ومنع دخول المساعدات، باتت الظروف الإنسانية مزرية وتضاعف عدد الضحايا -شهداء وجرحى- وابتعد شبح اتفاق وقف إطلاق النار لست شهور تقريباً إلى كانون الثاني/يناير الماضي.
تم التعاطي مع اجتياح المدينة بخفة وسطحية ولا مسؤولية، ولم يتم الاستلقاء على الجدار بالمعنى السياسي لإنقاذ المدينة وغزة بشكل عام، والآن مرة أخرى يتكرر المشهد بحذافيره ضمن أهداف أخرى تتضمن إطالة الحرب “الأبدية” خدمة لمصالح بنيامين نتنياهو وحكومته العنصرية المتطرفة، والضغط على المدنيين وتدمير ما تبقي من القطاع وتقسيمه لتسهيل السيطرة الكاملة عليه، بعدما جرى تأسيس بنى تحتية لإعادة اجتياحه عند الحاجة، وفي السياق شهدنا ابتداع محور “موراج” أو “فيلادلفيا 2” كما أسمّاه نتنياهو وهو بالحقيقة “نتساريم 4” –الثالث قسم شمال القطاع إلى شمالين – ضمن متلازمة المحاور الأمنية والعازلة المنبثقة من ذهنية الاحتلال التوسعية.
تهجير أهل غزة
ضمن الذهنية نفسها نشهد عزل مدينة رفح بالمعبر والمحور عن محطيها الفلسطيني والمصري والعربي، وجعلها أقرب إلى حيز جغرافي بشري محاصر ومعزول عن مصر بمحور “فيلادلفيا”، وعن خان يونس وباقي قطاع غزة “بموراج” (فيلادلفيا 2)، وبأقل عدد من السكان علماً أن هذا يندرج ضمن تهيئة الظروف أمام تنفيذ خطة التهجير، مع تجويع اللاجئين وتدمير ما تبقى من رفح وغزة عموماً، ووضع الناس أمام معادلة “العدو وراءكم والبحر أمامكم” مع سفن جاهزة للانتشار على شواطئ غزة لتنفيذ التهجير باللحظة المناسبة وهي الخطة التي لم تعد سرية أو خفية كما قال المعلّق العسكري لـ”هآرتس” عاموس هرئيل الأحد الماضي.
بمواجهة المعطيات والوقائع السابقة، نجد أنفسنا أمام انغلاق وضيق أفق وقصر نظر وبيانات وخطابات وشعارات لغوية وإنشائية، ومناشدة العالم كله للتدخل لوقف الخطط والممارسات والجرائم الإسرائيلية، دون الانتباه إلى حقيقة أن ما لم يتحقق خلال عام ونصف لن يتحقق خلال أيام، خاصة مع عودة دونالد ترامب “المظفرة” إلى البيت الأبيض وإعطائه الضوء الأخضر لنتنياهو وحكومته للمضي قدماً في سياساتها وخططها التوسعية المعلنة تجاه غزة والضفة وفلسطين بشكل عام.
الاعتماد على أنفسنا
هذا يعني بالضرورة -كما كان الحال دائماً- الحاجة لاعتمادنا على أنفسنا وقوانا الذاتية غير البسيطة أو المتواضعة، مع عدالة القضية وعناد الفلسطينيين وصمودهم، ومع عدم تبرئة السلطة برام الله المنفصمة والمنفصلة عن الواقع والعاجزة عن القيام بواجباتها باعتبارها القيادة الفلسطينية الرسمية المعترف بها، إلا أن حماس تتحمل بالتأكيد المسؤولية الأساسية باعتبارها سلطة الأمر الواقع الفعلية في غزة –مجازاً حيث لا سلطة عملية ولا حياة بالمعنى الدقيق للمصطلح هناك_، لكن مع الفراغ القيادي والمؤسساتي لا تبدو الحركة للأسف قادرة على قراءة الوقائع واتخاذ قرارات شرعية وجريئة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
في الأخير باختصار وتركيز كان المخرج ولا يزال هو نفسه آنذاك -أيار مايو الماضي- واليوم، ويتمثل التضحية الحزبية من أجل فلسطين، والحفاظ على جوهر القضية العادلة وعودة السلطة الرسمية على علاّتها لتحمل المسؤولية بغزة وعنها، ضمن رؤية شاملة وجدية لإنهاء الانقسام وتشكيل حكومة توافق وطني، وإبقاء الأفق الوطني والسياسي والجغرافي مفتوحاً من غزة نحو القدس والضفة والدولة الفلسطينية.
المصدر: المدن