قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء عند الحديث عن العشائر والعشيرة في بلد كالعراق، يفترض أنه أحد البلدان العربية التي نالت استقلالها مبكراً عن الاستعمار البريطاني، وشهد مجتمعه تحوّلات كبيرة وخطوات واسعة نحو بناء الدولة المدنية، لكن واقع العراق، خصوصاً عقب الغزو الأميركي (2003)، وما أحدثه من انهيار كامل لمنظومة الدولة؛ جعل من العشيرة اليوم واحدةً من القوى المركزية ذات السلطة، التي قد تتمتّع أحياناً بسلطة تفوق سلطة الدولة.
بالعودة إلى خلفية المشهد، ومع دخول القوات البريطانية إلى العراق عام 1917، في أثناء الحرب العالمية الأولى وبدء عملية فصل العراق عن جسد الدولة العثمانية، التي كانت شمسها على وشك الأفول، ساهمت العشائر العراقية في لعب دور بارز تمثّل في مقاومة المحتلّ البريطاني تارةً، وفي محاولة إيجاد مكان لها في الدولة الوليدة، التي كانت تتشكّل، تارةً أخرى.
صراع النفوذ بين سلطة العشيرة والدولة استهلك كثيراً من مقوّمات البلاد. فقد كانت العشيرة، التي كانت تتمتّع بامتيازات كبيرة إبّان حقبة الدولة العثمانية، غير مقتنعة بالتخلّي عن تلك الامتيازات لصالح الدولة المدنية، وعندما نتحدّث هنا عن العشائر، نتحدّث عمّا يقارب 70% من نسبة المجتمع العراقي، بحسب الباحث العراقي غسّان العطية، مشيراً إلى أن الدولة العراقية حديثة التكوين في مطلع القرن العشرين استندت إلى أهل المدن، ونسبتهم لا تتجاوز 30% في أحسن الأحوال.
الهجرة من الريف إلى المدينة كانت من العوامل التي حوّلت العديد من حواضر المدن العراقية بؤراً عشائريةً كبيرةً
خطوات متسارعة اتخذتها الدولة العراقية من أجل انتزاع السلطات من يد العشيرة، حتى دُمِجت العشيرة في جسد الدولة المدنية بشكل كبير خلال أقلّ من أربعة عقود، لكن من دون أن تندمج بشكل كامل، فالسلطة التي كانت تتمتّع بها العشيرة ظلّت مغريةً، ليس لها فحسب، بل حتى للنظام المركزي الذي كان كثيراً ما يستعين بها لبسط نفوذه.
الهجرة من الريف إلى المدينة كانت من العوامل التي حوّلت العديد من حواضر المدن العراقية بؤراً عشائريةً كبيرةً، فحتى بغداد يقول عنها المؤرخ حنّا بطاطو إنها كانت ريفاً كبيراً، ثمّ جاءت الحقبة الجمهورية الأولى عام 1958 عقب الانقلاب على النظام الملكي، لتؤسّس مدناً جديدةً داخل العاصمة لأولئك المهاجرين القرويين، فكانت هذه البؤر عبارة عن تجمّعات عشائرية ظلّت تعاني من قدرتها على الاندماج مع مجتمع المدينة خصوصاً، وأنها كانت تفضّل أن تسكن بوصفها تجمّعاتٍ عشائريةٍ في داخل المدينة.
يمكن القول إنه، عقب الملكية والجمهوريتَين الأولى والثانية، تمكّن العراق (المدني) من فرض نمط الدولة على العشيرة، التي تراجع دورها كثيراً قبل أن يعود النظام للاستعانة بسلطة العشيرة من أجل بسط سلطة الدولة، وذلك عقب حرب تحرير الكويت، وضعف سلطة الدولة، وحركة التمرّد التي حدثت في جنوب العراق عام 1991، فما كان له من خيار سوى الاستعانة بسلطة العشيرة من أجل أن تكون ذراعاً لسلطة الدولة. لكن تلك السلطة، التي تمتّعت بها العشيرة خلال تسعينيّات القرن المنصرم، بقيت سلطةً مُتحكّماً بها من قبل النظام، إلا أن التحوّل الأكبر الذي حدث لسلطة العشيرة هو ما جرى عقب الغزو الأميركي، فلقد برز دور العشيرة بشكل لافت، وطغت حتى تحوّلت بعض العشائر العراقية دولاً داخل جسد الدولة.
انهيار النظام عقب الغزو الأميركي، ودخول العراق مرحلةَ الفوضى التي أعقبت ذلك الغزو، وتصاعد حدّة الاغتيالات على أسس مذهبية في الغالب، وغياب سلطة القانون… كلّها أسباب دفعت العراقيين إلى التموضع مرّة أخرى، والاندفاع نحو العشيرة، فلم تعد الدولة تحمي، بل لم يعد للدولة وجود، فكان البديل لها العشيرة أولاً، حتى حدثت هجرات كبيرة من مركز مدينة بغداد إلى القرى والأرياف للاحتماء بالعشيرة وقانونها، الذي بات هو الملاذ الأخير في ظلّ غياب القانون.
يحتاج عراق الدولة أن يفرض نفسه على الجميع وأن يفرض سلطته على الجميع
اليوم وبعد أكثر من 20 عاماً على الغزو الأميركي وتغيير النظام، ما زالت العشيرة متحكّمةً وقادرةً على أن تفرض نفسها على سلطة الدولة المدنية، بل يمكن القول إن تحالفاً تشكَّل عقب الغزو الأميركي بين عمامة رجل الدين وعقال شيخ العشيرة، وهو تحالف تمدّد في جسد الدولة، التي تشكّلت على أنقاض دولة ما قبل الغزو، وصار هذا التحالف اليوم صاحب اليد الطولى في تحديد مساراتٍ مهمّةٍ في حياة النظام السياسي الذي تشكّل عقب الغزو الأميركي.
تمكنت العشائر في العراق من أن تعيد رسم دورها عقب الغزو، خصوصاً بعد أن نجحت في أن تكون مادّةً سياسية للقوى والأحزاب المتنافسة، ولعلّ الانتخابات المحلّية، التي أجريت في العراق نهاية 2023، تشير بوضوح إلى استعادة العشيرة قدرتها على أن تكون محطّةً جاذبةً للتيارات والقوى السياسية، فشهدت تلك الانتخابات أوسع مشاركة من أهل القرى والأرياف في مقابل مشاركة أهل المدن.
الخطورة في ذلك كلّه أن كثيراً من هذه العشائر، وخصوصاً في جنوب العراق، مسلّحة، وعندما نقول مسلّحةً فإننا لا نعني السلاح الخفيف المعتاد لدى ابن العشيرة، بل أسلحة متوسّطة وأكثر، في حين أن بعض تلك العشائر تحوّلت جزءاً من مليشيات مسلحة، وبعضها الآخر يتولّى عملية تهريب النفط بالتحالف مع قوى سياسية ومليشيات مسلّحة، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان على الدولة أن تفرض قانونها على تلك العشائر، التي تحتمي بسلطة القوى المتحالفة معها، سواء مليشيات مسلّحة أو أحزاب أو تيّارات دينية.
يحتاج عراق الدولة أن يفرض نفسه على الجميع، أن يفرض سلطته على الجميع، ومن بين هذا الجميع العشائر التي باتت تُشكّل أرقاً مستمرّاً للأجهزة التنفيذية، التي كثيراً ما تفشل في فرض سيطرتها على تلك العشائر بسبب تلك العلاقة المصلحية التي تربط أحزاب السلطة بها.
المصدر: العربي الجديد