منع قيام الدولة بدءا من عرقلة تشكيل الحكومة

طوني فرنسيس

لبنان في دوامة بقايا الإصرار الإيراني على الخطاب الانتصاري فوق أشلاء الجنوب وغزة

لم يتعلم “حزب الله” وممالؤوه دروس الانقلاب الجذري الحاصل في الإقليم، ولا فهموا رغبة الكثرة الساحقة من اللبنانيين في الخلاص من مرحلة سوداء، وعلى رغم ما جرى في لبنان وغزة وانهيار نظام الأسد وخروج إيران من سوريا، لا يزال أنصار الملالي في لبنان على إيمانهم بالمنطق الانتصاري الذي تلهج به حاشية المرشد الإيراني علي خامنئي على رغم الشكوك المحيطة بأهداف إيران المصلحية الخاصة

عشية الموعد المقرر لإنهاء الانسحاب الإسرائيلي من لبنان (فجر أمس الأحد) بمقتضى الاتفاق الذي أنهى الحرب بين “حزب الله” وتل أبيب، بدا أن خطة إعاقة قيام المؤسسات اللبنانية الدستورية لا تزال قائمة، يجسدّ رأس جبل جليدها إصرار “حزب الله” وحليفه رئيس المجلس النيابي نبيه بري على ضمان الحصول على حصة ومواقع وازنة في حكومة الجمهورية الأولى بعد انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً، بدلاً من الاهتمام وتركيز الجهود على استكمال بناء المؤسسة الشرعية القادرة على تحقيق الانسحاب الإسرائيلي، ونزع الذرائع التي تتيح له مواصلة احتلاله لأجزاء من الأراضي اللبنانية.

عشية انتهاء المهلة، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً تم الاستئناس في شأنه مع الإدارة الأميركية الجديدة، قضى بإبقاء نقاط للاحتلال لمدة شهر في الأقل في منطقة حساسة من الجنوب تمتد من كفركلا إلى عيترون وتقترب من مجرى نهر الليطاني، وبررت استمرار الاحتلال الموقت هذا بزعمها أن “حزب الله” لم ينفذ الاتفاق الذي أوقف إطلاق النار ولم ينسحب من جنوب النهر، وأن الجيش اللبناني لم يستكمل انتشاره ووضع يده على مواقع وأسلحة يفترض أن يصادرها، كما أن قوات الطوارئ الدولية لم تتمكن من ممارسة مهماتها وهي عادت لتكون هدفاً لاعتراضات “الأهالي”، الاسم الحركي للمجموعات المناصرة لـ”المقاومة” في الجنوب اللبناني.

ألقى عدم تنفيذ إسرائيل الانسحاب المفترض في موعده وتذرعها بعدم التزام الجانب اللبناني حصته من موجبات اتفاق وقف الأعمال العدائية بظلاله على الآمال الكبرى التي يضعها مجمل الشعب اللبناني على شخصية رئيس الجمهورية وعلى رئيس الحكومة المكلف نواف سلام بعد اختيارهما نتيجة قناعة شعبية عارمة وتوجه عربي ودولي حاسم، بضرورة إخراج لبنان من أعوام الهيمنة الإيرانية والسورية الأسدية ووضعه على طريق استعادة الدولة ومؤسساتها وتحريرها من أسر الميليشيات التابعة لملالي طهران وحلفائها من أركان نظام المحاصصة والفساد الطائفي .

وفي مشهد مؤسف يتلاقى بعض هؤلاء الأركان، بقيادة ودفع من الميليشيات نفسها، على محاولة منع قيام دولة الدستور والمواطنة عبر عرقلتهم انطلاقة الشرعية الجديدة باشتراطهم الحصول على الحصص الدسمة في حكومة لا يمكنها أن تكون نسخة عن سابقاتها، ولا أن تكرر تجارب الحكومات – الواجهة لطرف هيمن طويلاً بقوة السلاح على الحياة السياسية وقاد البلد إلى مجزرة دفع هو نفسه، إلى جانب اللبنانيين عموماً أثماناً باهظة لها. ويقوم هذا الطرف ممثلاً بـ”الثنائي الشيعي” المحارب الذي تعهد شن الحرب ضد إسرائيل ثم خاض مفاوضات وقفها وصولاً إلى اتفاق وصف بأنه اتفاق “إذعان”، بدور مركزي في معركة التحاصص، بل إنه يجر أطرافاً أخرى إلى خوض المنافسة على الحصص بشروطه، متمسكاً بالحصول على مواقع محددة تتيح له تعطيل قرارات الحكومة المنتظرة، ومن بينها خصوصاً وضع اليد على وزارة المالية التي أبدع خلال توليه إياها في شلّ الدولة عبر الامتناع عن تسيير قرارات حكومية مصيرية لا تناسبه، إضافة إلى رعايته، وهو على رأسها، الانهيار المالي الكبير الذي يشهده لبنان منذ خريف عام 2019.

يتحجج “الثنائي” في تمسكه بهذه المواقع بما يسميه “الميثاقية” التي تعني مشاركة جميع الطوائف اللبنانية في السلطة وفي القرارات الكبرى، بحسب ما نصت وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في مدينة الطائف برعاية سعودية عام 1989، لكن تلك الوثيقة والدستور المنبثق منها لم يشيرا في نصوصهما إلى استئثار طائفة بأي موقع في الدولة، وقضت الميثاقية بتعاون ومشاركة الجميع في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بالمصير الوطني خصوصاً. ومع ذلك أدار مدعو الميثاقية الجدد الظهر لها في كل ممارساتهم، ومنذ ما يزيد على عقد ونيف يفرضون رؤيتهم لتشكيل الحكومات واختيار الرؤساء وصولاً إلى شن الحروب في الداخل وعلى الحدود والإسهام المعتبر في معارك الميليشيات الإيرانية من البوسنة في التسعينيات من القرن الماضي إلى العراق وسوريا وصولاً إلى اليمن .

في كل تلك الحالات والممارسات، جرى دوس الميثاقية ومعها إرادة غالبية اللبنانيين، واليوم يستأنف الحلف نفسه باسم الميثاقية المزعومة تلك خوض معركة محاصرة إرادة التحوّل اللبنانية وحشر رئيسي الجمهورية والحكومة ضمن خيارات يرفضانها مسبقاً، هما اللذان يعدان بالانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة في بياناتهما وسلوكهما تتجاوز المرحلة السوداء السابقة.

كان ينبغي أن تكون حكومة الجمهورية مكتملة قبل حلول الموعد المتفق عليه للانسحاب الإسرائيلي من الجنوب كي تتمكن البلاد من تنفيذ التزاماتها كاملة وفرض خروج جيش الاحتلال إلى الحدود الدولية. لكن ذلك لم يكُن ضمن حسابات “الثنائي” ولا ضمن أولويات راعيهما الإقليمي. لقد استمر هؤلاء حتى اللحظة الأخيرة في رفضهم انتخاب جوزاف عون رئيساً وعندما بدا لهم أن الغالبية النيابية تتجه لتسمية رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام ابن العائلة البيروتية العريقة رئيساً للحكومة غضبوا أيما غضب وحاولوا تأجيل الاستشارات ثم قاطعوها، إذ كانوا يريدون الإبقاء على نجيب ميقاتي الذي تعاون معهم منذ الإطاحة بسعد الحريري، رئيساً لحكومة مشابهة لتلك التي تواصل تصريف الأعمال منذ ما يقارب ثلاثة أعوام، وتولت في أبرز أعمالها الأخيرة المصادقة على اتفاق “حزب الله” – إسرائيل بقيادة رئيس المجلس النيابي ورعاية الولايات المتحدة الأميركية.

لا تُفهم “الممانعة” في تسهيل ولادة حكومة جوزاف عون ونواف سلام سوى بوصفها رغبة في منع تنفيذ ذلك الاتفاق الذي يتيح في الظروف الراهنة فرض الانسحاب الإسرائيلي واستعادة الدولة دورها كمرجع وحيد لقرار الحرب والسلم وحصر السلاح لمصلحة أجهزتها الشرعية، مما نصت عليه إجراءات تنفيذ القرار 1701 المستند بدوره إلى مجموعة من القرارات الدولية ذات الصلة.

ولم ينفذ ذلك القرار منذ صدوره عن مجلس الأمن الدولي قبل 18 عاماً، فإسرائيل لم تطبقه وإيران حوّلت لبنان في الأثناء إلى متراس أمامي لسياساتها الإقليمية. ولم يكُن متاحاً قيام لبنان بواجبه تجاه نصوص القرار من دون دولة تقود هذه العملية. وحرص “حزب الله” ومن ورائه راعيه الإقليمي خلال الأعوام الماضية على منع قيام هذه الدولة وتطويع ما بقي من مظاهرها، في موازاة العمل على ترهيب وتدجين فئات الشعب اللبناني على تنوعها، فما عاد تنفيذ القرار الدولي وارداً، إذ إن غياب الدولة السيدة القادرة وصاحبة القرار سيجعل التزام أية موجبات أمراً مستحيلاً.

واليوم أيضاً يكرر الحزب بعد جرّه لبنان إلى الحرب المدمرة محاولة منع قيام الدولة لتقوم بواجباتها التي اتسع برنامجها ليشمل إعادة إعمار المناطق المدمرة بعد استعادتها، إضافة إلى التحرر من إرث طويل من هيمنة دويلة الميليشيات والفساد. والمنع لا يقتصر على عدم التزام تنفيذ القرار 1701 والاحتفاظ بالسلاح في صيغته السابقة، بل يتعداه إلى إعاقة قيام مؤسسات السلطة الشرعية، النقيض لهذا المنطق، ومن هنا يفهم الإصرار على عرقلة تشكيل الحكومة، كما تفهم الحملات ضد المؤسسة العسكرية بهدف تطويق دور الجيش عبر إثارة صدامات بينه ومواطنين بدعوى مطالبته بقتال إسرائيل .

لم يتعلم الحزب وممالؤوه دروس الانقلاب الجذري الحاصل في الإقليم، ولا فهموا رغبة الكثرة الساحقة من اللبنانيين في الخلاص من مرحلة سوداء، وعلى رغم ما جرى في لبنان وغزة وانهيار نظام الأسد وخروج إيران من سوريا، لا يزال أنصار الملالي في لبنان على إيمانهم بالمنطق الانتصاري الذي تلهج به حاشية المرشد الإيراني علي خامنئي على رغم الشكوك المحيطة بأهداف إيران المصلحية الخاصة.

وفيما يناقش محللون إسرائيليون ضرورة قيام نخبهم بمراجعات “حتى لو قمنا باحتلال كل الشرق الأوسط” (يائير أسولين- هآرتس) ويتحدث دونالد ترمب عن خطة لتهجير سكان غزة ضمن استعجاله العنيف لفرض “السلام في الشرق الاوسط”، يواصل إيرانيو المرشد ومعهم بقايا أذرعتهم الإلحاح على إظهار معالم الهزيمة الأميركية- الإسرائيلية، في رفض انتحاري لوقائع عصر جديد يفترض في أدنى حالاته اللبنانية الانضواء مرة واحدة وأخيرة تحت لواء الدولة الوطنية التي يحتضنها العالم وفي المقدمة أشقاؤها العرب.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى