في إشكالية تعديل الدستور اللبناني

باسل. ف. صالح

بالعودة إلى النقاش المحتدم الذي دار في جلسة مجلس النواب اللبناني حول تعديل الدستور، ورفض كثيرين من النواب هذه الخطوة الوحيدة المتاحة للتوصل إلى حل يفسح الطريق أمام انتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية، والمتوافق عليه دوليّاً، أو أقله تمسّك هؤلاء النواب بضرورة المحافظة على الدستور والإتيان برئيس من دون تعديله، وكل الإشكال والتراشق الذي نتج عن المسألة في لحظة أصبحت البلاد فيها تحت الوصاية الدولية بشكل مباشر، فقد تكثّف النقاش ليس على البحث في الدستور حصراً، أو على ممارسة سياسية إصلاحية تغييرية تريد التمسّك بالدستور لكثرة ما جرى الالتفاف عليه في كل الحقبات السابقة، وصولاً إلى تعليق العمل به أحيانًا كثيرة، بقدر ما تكثّف حول إشكال حقيقي لطالما طاول هذا النوع من الأزمات التي تواجه البلدان في لحظات مصيرية من تاريخها، وخصوصاً في دولة كالدولة اللبنانية. ليست أقل من ذلك المعضلة التي تواجه الديمقراطية، بصفتها نظاماً متكاملاً أو آليةً للتنافس على السلطة.

على هذا المنوال، تقف المعضلة البنيوية في الديمقراطية على قضية مفادها، أو بالأحرى على سؤال مفاده: ماذا لو وصل إلى السلطة، وبشكل ديمقراطي، من يعارض الديمقراطية ولا يرتضيها نظام حكم؟ ما الذي يمكن فعله حيال هذه المسألة، وكيف يمكن تفاديها، أو التقليل من نتائجها الوخيمة على الممارسة الديمقراطية نفسها؟ هل تتعطّل الديمقراطية أم يُستكمَل العمل بها ليصل إلى السلطة من سيعطلها؟ وهل يمكن أن تكون المواجهة السلمية والديمقراطية الطريقة الوحيدة للوقوف في وجه مثل هذا الخطر، أم هناك إمكانية لفعل شيءٍ حيال ذلك، وهذا الفعل يتعارض كلية مع الديمقراطية نفسها؟ والسؤال نفسه يمكن أن نقلبه ليعبّر عن إشكالية الإشكالات التي واجهت المجلس النيابي اللبناني حيال مطلب تعديل الدستور، وكل الجدل الذي ارتبط بهذه الخطوة ودار حولها، إذ هل من المبرّر خرق الدستور تمهيداً لإعادة انتظام العمل به، ومن ثم إعادته إلى سياقه الطبيعي آليةً تضبط إيقاع حكم البلاد على أسس واضحة؟ وهل يمكن الالتزام بالدستور بشكل لا يتناقض مع الممارسة الدستورية الحرفية، ولو استمرّت حالة الفراغ، ولو تعارضت مع الإرادة الدولية، أم أن تعديل الدستور خطوة ضرورية نتيجتها عودة العمل بالدستور وفتح الباب أمام إمكانية تخطي تعليقه أو عرقلته في المقبل من الأيام؟

كيف يمكن التمسّك بالدستور في ظل قراءة وتفسير دستوري يحتكره رئيس المجلس النيابي؟

في معضلاتٍ كهذه، من المتعذّر النظر في إحداها دون النظر في الأخرى، خصوصاً بعد ربطها بخطر اللحظة السياسية ودقّتها، وبحراجة الشروط الموضوعية الداخلية والخارجية، لا سيما أن من المتعذّر فصل أي من هذه الشروط بعضها عن بعض في هذه الحالة، والتعامل مع الوضع السياسي في البلاد وكأنها تمرّ في حالة طبيعية لا إشكالات فيها، وما علينا إلا النظر في المسألة من بوابة الإرادات، فمن المتعذّر الوصول إلى أي نتيجة من خلال التمسّك بالمبدأ الديمقراطي أو الدستوري للقبول بنتيجة الممارسة الديمقراطية أو الدستورية التي أوصلت من لا يؤمن بالديمقراطية، وممن لطالما صادر الدستور للإمعان في سلطانه، وعمل على تعليق العمل النيابي وكل إمكانات تداول السلطة، وعلى تعليق الممارسة السياسية نفسها. والأمر لا يعني إطلاقًا تبرير هذا الخرق، أو هذه الممارسة، بشكل دائم، واعتبارها قاعدة تصح في كل زمان ومكان، بقدر ما يعني أن معالجة الإشكالية تستدعي، وبشكل نفعي، ووفق الضرورة اللحظية، تخطي الإشكالية نفسها، من دون الحرج في النظر بالأمر من بوابة أن الضرورات تبيح المحظورات، أو النظر إلى الأمر من بوابة قاعدةٍ تنصّ على أنه من أجل تفادي الخطر الأكبر، تمكن ممارسة الخطر الأصغر. فكيف يمكن التمسّك بالدستور في ظل قراءة وتفسير دستوري يحتكره رئيس المجلس النيابي، ولم يؤدِ في العقود الأخيرة إلا إلى تعليق الدستور والسياسة والبلاد، وإلى مصادرة العمل النيابي وفتح أبواب المجلس أو إغلاقه كما يحلو لرئيسه ولطرف الثنائي الشيعي المهيمن على لبنان؟ وهل تبقى البلاد من دون رئيس إلى أجل غير مسمّى، أم يمكن النظر في المسألة وإعادة الانتظام إلى العمل والحياة السياسية بعد أن وصل الفرز السياسي الطائفي في البلاد إلى معضلة ستؤدي إلى إطاحة وحدتها؟ وهل من الممكن، بعد اليوم، القبول بهذه الممارسة، أم من الأجدى إطلاق يد المجلس الدستوري للبتّ بشأن القضايا والمواد الدستورية عندما نصل في لبنان، أو في أي بلد آخر، إلى خلاف حول الآلية التي تنتج أزمة دستورية خانقة؟ فمن ذاك الذي يمتلك شرعية تفسير هذه القضية أو تلك المادة الدستورية، بحيث تكون ملزمة للأطراف السياسية جميعها لاعتبارها بديهية لا يمكن إلا أخذها بالاعتبار، من دون إدخال البلاد عند كل استحقاق دستوري في صراع مرير مع من يتحكّم بالدستور كما يحلو له، وكما يخدم سلطانه وقدرته على ممارسة ما يناسبه، ولو على حساب البلاد وانتظام الحياة السياسية فيها؟

يصل بعضهم في معالجتهم هذه المشكلة إلى تبرير العنف في حالة الدفاع عن الديمقراطية، كما يمكن قلب هذه المعادلة ليتماهى العنف مع السلوك الضروري المتمثّل بتعديل الدستور، بحيث تصبح خطوة ضرورية بهدف المحافظة على الدستور وعلى البلاد. هنا تأخذ المشكلة أبعاداً مختلفة لا تقف على مستوى التفسير والالتزام الحرفي بقانون عام يعكس الالتزام التام بحرفيته، ولاحقاً استمرار إعاقة تحويله إلى ممارسة، بل إلى البحث في شروط دفع هذا القانون العام نفسه لكي يصبح نافذاً، ولو بدفع ما من خارجه، وإلا سيُستكمل الفراغ في البلاد من دون الإتيان برئيس للجمهورية، ولا برئيس للحكومة، بل استمرار البلاد معلّقة تترنّح في حالتها الفراغية وتنفتح كل إمكانيات إطاحة وحدتها، في هذه الحراجة الدولية والإقليمية من ناحية، وفي هذا الانهيار الداخلي من ناحية ثانية.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى