تضاعف النفوذ التركي كثيراً في الشرق الأفريقي، وفي أفريقيا بصفة عامّة، خلال حكم الرئيس رجب طيّب أردوغان، منذ تولّى رئاسة الوزراء في تركيا عام 2003. في خلال 20 سنة تقريباً، تضاعف التبادل التجاري بين تركيا والقارّة الأفريقية ثماني مرّات، من خمسة مليارات دولار إلى قرابة 40 مليار دولار في العام الماضي (2023). كذلك، أصبح التمثيل الدبلوماسي التركي تقريباً في أنحاء القارة الأفريقية كلّها. هناك حالياً 45 سفارة تركية في أفريقيا، وهو عدد يناظر فقط عدد سفارات القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، اللتين تمتلكان حوالي 53 سفارة.
لكنّ الدور التركي أيضاً تجاوز العلاقات الدبلوماسية والتجارة، ووصل حتى المساعدات العسكرية والوجود العسكري في الأرض. الصومال مثال ناجح للعلاقة التركية الأفريقية، لأن تركيا من أوائل الدول التي عادت إلى هذا البلد بعد خروج قوات حفظ السلام منه في التسعينيّات، والحقيقة أيضاً أن هذه العودة جاءت بمساعدة كبيرة جدّاً، بصفقة صرفت فيها تركيا مليار دولار في مدى عشر سنوات منذ 2010. تضمّنت المساعدة بناء مستشفىً كبير ومدارسَ، بالإضافة إلى تدريب الجنود الصوماليين لدعم مواجهاتهم حركة الشباب الإسلامي (الجهادية المتطرّفة). وهناك قاعدة عسكرية كبيرة في مقديشو. ومن هنا، لتركيا مصلحة في الحفاظ على وحدّة الصومال، وعلى سيطرة الحكومة في مقديشو على الإقليم الصومالي كلّه.
تحتاج مصر إلى الاستمرار في دبلوماسيتها الراهنة التي تُوثّق علاقاتها بدول الشرق الأفريقي، بدءاً من الصومال
ويمثل الاتفاق الإثيوبي مع ما تسمّى أرض الصومال، الدولة التي لا يعترف بها أحد رغم أنها أعلنت استقلالها منذ 30 سنة، خطراً على الوجود التركي في الصومال، وقد استثمرت تركيا علاقاتها الطيبة مع إثيوبيا، لكي تتوسّط في هذا الاتفاق الجديد بين إثيوبيا والصومال، الذي يقوم على مبادلة اعتراف إثيوبيا بوحدة أراضي الصومال وسيادة الصومال في إقليمها كلّه، في مقابل وعد صومالي بأن المفاوضات التي ستبدأ في فبراير/ شباط، وتستمرّ أربعة أشهر، سوف تنتج اتفاقاً يسمح لإثيوبيا بالوصول إلى البحر، لأنّ إثيوبيا ليس لها منفذ بحري.
ولا يضمن الاتفاق (للأسف الشديد) إلغاء الاتفاق السابق، الذي أقامته إثيوبيا مع “أرض الصومال”. ولكنّه أيضاً لا يتضمّن بعد نوعَ التسهيلات التي ستمنحها الصومال لإثيوبيا للوصول إلى البحر. ننتظر ما سوف تسفر عنه هذه المفاوضات، وليس كلّ مفاوضات تبدأ تنتهي باتفاق. فلدينا أيضاً مفاوضات مماثلة، تسمّى مفاوضات “فنّية”، مستمرّة بين مصر وإثيوبيا منذ الإعلان الثلاثي المصري الإثيوبي السوداني حول سدّ النهضة الإثيوبي على نهر النيل. وهذه المفاوضات المستمرّة منذ حوالي عشر سنوات لم تسفر عن أيّ اتفاق. سننتظر ونرى.
أمّا هل يمثّل الاتفاق الإثيوبي الصومالي بالوساطة التركية تهديداً أو تحدّياً لمصر والدور المصري والعلاقات المصرية الصومالية؟… فلا يعتقد كاتب هذه السطور ذلك، فمصر وتركيا تتفقان في أن مصلحتهما تكمن في وحدة الأراضي الصومالية. وبالتأكيد، ليست مصر ضدّ أن تحصل إثيوبيا على منفذ على البحر للنشاطات التجارية المدنية القانونية المبرّرة، فطالما ظلّت هذه الصياغة، فهذا لا يمثّل على الإطلاق أيّ تحدٍّ لمصر، ولطالما تمّ بموافقة وقبول صومالي وتحت السيادة الصومالية. والتأثير المحتمل الوحيد هو ما جرى الاتفاق عليه بين البلدين (الصومال وإثيوبيا) بشأن القوات الدولية. كانت القوات الإثيوبية المشاركة في قوة الاتحاد الأفريقي وقوة حفظ السلام ستخرج منهما في شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري أو العام الذي ينصرف بعد أيام (2024)، وعرضت مصر أنه في هذه الحالة يمكن استبدال هذه القوة بقوة مصرية تمثّل عماد القوة الدولية. فهل يا ترى يضمن الاتفاق الإثيوبي الصومالي بالوساطة التركية استمرار القوات الإثيوبية ضمن القوات الدولية أم لا؟… إذا استمرّت إثيوبيا، فلن يمثّل ذلك تهديداً لمصر، بل بالعكس.
كانت هناك في مصر تخوّفات لدى الرأي العام عندما أعلنت رغبتها في المشاركة في القوة الدولية وإرسال أسلحة إلى هذه القوة مُقدّماً قبل أن تصل قوتها إلى المشاركة في حفظ السلام. كان هناك تخوّف لدى الرأي العام المصري من أن يؤدّي ذلك إلى تورّط مصر في صراع عسكري في القرن الأفريقي. فإذا ما قرّرت إثيوبيا ووافقت على استمرار القوة الإثيوبية، فهذا لن يمثّل أيّ تهديد للمصالح الاستراتيجية المصرية، ولا تحتاج مصر أن تردّ دبلوماسياً على الاتفاق الإثيوبي الصومالي بالوساطة التركية. بل بالعكس، أعتقد أن مصر يجب أن تدعم جهود أن تتوصّل المفاوضات الفنّية، التي سوف تبدأ في فبراير/ شباط إلى اتفاق، وأن يكون هذا الاتفاق يتضمّن اعترافاً صريحاً إثيوبياً بوحدة أراضي الصومال تحت سيادة الحكومة الصومالية في مقديشو، وإلغاء الاتفاق الإثيوبي مع أرض الصومال، والتراجع الإثيوبي عن الاعتراف بها.
تحتاج مصر إلى الاستمرار في دبلوماسيتها الراهنة التي تُوثّق علاقاتها بدول الشرق الأفريقي، بدءاً من الصومال. الاتفاق على التعاون الاستراتيجي بين البلدين موجود، ومصر في تعاون كبير مع تركيا لدعم الصومال، سواء في المجال الطبّي أو في مجال مشروعات الطرق. تحتاج البنية التحتية الصومالية إلى مشروعاتٍ كثيرة، وستتعاون الشركات المصرية والتركية فيها، والذين يعتقدون بإمكانية التعاون المصري التركي للوصول إلى حلّ مع إثيوبيا في مسألة سدّ النهضة الإثيوبي لديهم وجهة نظر قوية.
دعم العلاقات الخاصة التي تربط تركيا مع إثيوبيا أيضاً الاتفاق الإثيوبي الصومالي، والذي يفتح المجال لتركيا كي يكون لها دور في الضغط على إثيوبيا وإقناعها بالوصول إلى اتفاق مع مصر بشأن ذلك. ومن الممكن أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، التي ينظر إليها بعضهم قلقاً، قد تساعد في هذا المجال، لأن إدارة ترامب الأولى كان لديها اهتمام كبير بالتوسّط بين إثيوبيا ومصر من أجل الوصول إلى اتفاق، لكن إثيوبيا لم تستجب لهذه الرغبة، ومن الممكن أن يكون لدى إدارة الرئيس الأميركي ترامب الجديدة توجّه أكبر في هذا المجال، وربّما تعطي ضوءاً أخضرَ لتركيا للمساهمة في هذا.
تلعب تركيا (كما نعلم) أدواراً عديدة بوصفها ممثّلاً للعالم الغربي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهذا يعني أن أنشطة عسكرية تركية عديدة خارج تركيا تجري بالتنسيق مع الولايات المتحدة، قائد هذا المعسكر الغربي، ويجري تصويرها في إطار الغرب أنها تخدم مصالحه، وهذا كثيراً ما يبقى داخل هذا الإطار. والعرض التركي بالتوسّط بين الجيش السوداني والقوات الانفصالية التي تحاربه (أو الإمارات) إيجابي، نتمنى أن ينجح ويتحقّق. يجب أن ترحّب مصر بهذا الدور التركي، لأنها (مصر) أول وأكبر متضرّر من دول الجوار من هذه الحرب، التي ضحيتها الأولى الشعب السوداني نفسه، فقد نتج من هذه الحرب نحو نصف مليون سوداني لجؤوا إلى مصر، ما يضع أعباءً إضافيةً على الاقتصاد المصري والخدمات المصرية. الأهم أن تحوّل جنوب مصر إلى ساحة للحرب السودانية يفتح الباب أمام مخاطر عديدة جدّاً على الأمن القومي المصري، ويرجع الحدود الجنوبية مصدرَ خطرٍ، سواء خطر الإرهاب أو المخدّرات أو أنواع الأنشطة غير القانونية كلّها، لأنه يفتح الباب أمام السودان نفسه كي يتحوّل دولةً فاشلةً، ومن ثم، تنتقل المشكلات التي تواجهها الدول الأفريقية إلى السودان، وعبرها إلى مصر.
ليس مؤكّداً أن هناك تنسيقاً مصرياً تركياً بشأن هذه الوساطة، لكن الظنّ أن هذا التنسيق يمكن أن يكون مفيداً جدّاً. ويطالب كاتب هذه السطور بأن تشمل الاجتماعات التي تدور في هامش القمة الإسلامية في القاهرة، التي سوف تُعقد فيها اجتماعات مصرية تركية، هذا الموضوع، وأن تشمل تنسيقاً بشأن هذا العرض التركي، الذي سيكون على غاية من الفائدة. ومن دون ربط بين ما تقوم به تركيا في شرق أفريقيا ودورها في سورية وليبيا، فإن لدى أيّ دولة توجّهاً عاماً أو استراتيجية، ولا تمثّل الاستراتيجية التركية المعلنة (نؤكّد “المعلنة”) الخطر الذي يتحسّب منه كثيرون في العالم العربي عموماً، على الأقل في الإعلام وفي السوشيال ميديا وما إلى ذلك.
يجب أن ترحّب مصر بالدور التركي في السودان لأنها أول وأكبر متضرّر من دول الجوار من الحرب هناك
لكن هل هناك حاجة إلى حوار صريح بين العرب وتركيا بشأن دورها في الدول العربية؟… طبعاً هناك مثل هذه الحاجة. والأهم حقيقة من المصارحة أن يكون هناك دور عربي إيجابي، أولاً، متّفق عليه. ليس من الضروري أن يتّفق العالم العربي كلّه على دور في سورية أو في ليبيا أو في شرق أفريقيا، أو في السودان، لكن على الأقلّ، يجب أن تتفق مجموعة من البلدان تحوز فكراً متشابهاً، مثل مصر ودول الخليج، على استراتيجية تدعم استقرار هذه الدول العربية (سورية وليبيا والسودان). وفي هذه الحالة، يمكن أن ينضم إليها اليمن قريباً، إن شاء الله! يجب أن يكون هذا الاتفاق العربي موجوداً، كي يمكن بعد ذلك أن يكون هناك حوار صريح مع تركيا حول دورها في هذه الدول، وألّا يمثّل تكراراً للدور الإيراني في الدول العربية، التي كانت إيران تتمتّع فيها بنفوذ كبير قبل سقوط نظام بشّار الأسد (سورية).
كاتب هذه السطور من المطالبين أولاً باتفاق عربي حول مستقبل هذه الدول ودور العرب فيها. ويجب أن يكون عند الدول العربية الرغبة التركية نفسها في القيام بدور في مساعدة هذه الدول، ويجب ألّا نكتفي بالبيانات. إذا ما توفّرت هذه الرغبة، فمن الممكن أن يكون هناك تنسيق مع تركيا، التي سترحب بهذا التنسيق.
المصدر: العربي الجديد