“سوريا الحرة” اقتصادياً

إياد الجعفري

مبشّرة للغاية، تلك المؤشرات الأولية بخصوص النهج الاقتصادي للحكومة السورية المؤقتة في دمشق، والتي باتت تسيطر على نحو 70% من الأراضي السورية. وإن كان من المبكر للغاية، الذهاب بهذا التفاؤل إلى أقصاه، إلا أنه انعكس بصورة دراماتيكية على سعر صرف الليرة، التي سجّلت ارتفاعاً قياسياً غير معتاد منذ سنوات.

ذلك التفاؤل الحذر لدى المتخصصين، تملّص من قيود عدم اليقين والخوف من اليوم التالي، لدى شريحة واسعة من السوريين، في الداخل. الأمر الذي انعكس في حراك ملفت بالأسواق. وبخلاف ما بات كالمسلمات التي لا ارتداد لها، في حياة السوريين البائسة، في العشرية الأخيرة، انخفضت أسعار السلع الأساسية، بصورة ملحوظة خلال الأيام الثلاثة الفائتة. وكان يمكن تسجّيل ما يؤكد ذلك في شهادات مصادر محلية، في أكثر من منطقة في البلاد، خصوصاً في دمشق وريفها.

ولا يرجع ذلك فقط إلى التأثير المعنوي لسقوط نظام الأسد، الذي انعكس بصورة فرحةً عارمة لدى غالبية السوريين، بل يرجع أساساً إلى الملامح الأولية للنهج الاقتصادي للحكومة الممسكة بزمام السيطرة في معظم الجغرافيا السورية، اليوم. وفي اجتماع عقده المسؤولون عن الملف الاقتصادي بتلك الحكومة، مع ممثِلي التجّار في سوريا، قبل أيام، كانت الرسائل مطمئنة للغاية.

ومن أبرز ما رشح عن هذا الاجتماع، أن الحكومة الجديدة ألغت القيود على أسعار البيع للمستهلك، والتي كانت حكومات النظام السابقة، تفرضها عبر ما كان يُعرف بـ”التموين”. وهي المؤسسة الاقتصادية-الأمنية التي أرهقت تجار سوريا على مدار عقود من حكم آل الأسد، عبر الرشاوى والفساد، من دون أن تحقق الغاية المُعلنة من نشاطها، وهي إجبار التجار على خفض الأسعار. إذ كانت وسيلة للابتزاز. وكان التجار يضيفون ما يدفعونه لدوريات التموين، على تكاليف البيع النهائية للمستهلك. أما الوجه الآخر المُظلم لعمليات “ضبط الأسعار” التي كان النظام السابق يدعي القيام بها، فهي قوائم الأسعار الرسمية، التي كانت الركيزة القانونية لابتزاز التجار. والتي كان التجار يشتكون من كونها تخالف واقع التكاليف، وتضطرهم لمخالفتها، كي يتمكنوا من الاستمرار في العمل.

هذه الدوامة انتهت، حسب ما رشح عن اجتماع مسؤولي الاقتصاد بالحكومة الجديدة مع التجار. إذ بات البيع من دون تسعير وفق سعر السوق التنافسي، “مع احترام الأخلاق والرحمة للمستهلك”. ولو التزمت الحكومة الجديدة بهذا البند من تفاهماتها مع التجار، إلى جانب البند التالي، وهو إلغاء الاحتكار والعمل بشفافية مع مرونة كبيرة للعمل التجاري والصناعي، فهذا يعني أن مجتمع الأعمال السوري سيكون مقبلاً على انتعاش نوعي، افتقده لعقود.

وفي ترجمة تنفيذية للبند الأخير، ألغت الحكومة السورية الجديدة منصة تمويل المستوردات سيئة الصيت، والتي كان النظام يعقّد من خلالها عملية الاستيراد، ويحصرها بفئات محددة من رجال الأعمال المقرّبين منه. والتي تسببت بفقدان الكثير من السلع في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وباحتكار دائرة ضيقة من الأسماء لمعظم السوق، لصالح عائلة الرئيس المخلوع.

وفي تصريحات أدلى بها رئيس اتحاد غرف التجارة السورية ورئيس غرفة تجارة دمشق، باسل حموي، لوكالة “رويترز”، قال إن الحكومة الجديدة أبلغت التجار بأنها ستتبنى نموذج السوق الحرة القائم على المنافسة، وأنها ستعمل على دمج البلاد في الاقتصاد العالمي. وتمظهرت أولى ترجمات هذا التصريح، في تداول علني غير مقيّد للعملات الأجنبية، في أسواق دمشق. حتى على صعيد البيع والشراء. حتى أن بعض المحلات بدأت تبيع بالفعل، بالعملات الثلاث المتاحة للتداول اليوم، وهي الدولار والليرة التركية والليرة السورية. وحتى مع تعميم مصرف سورية المركزي، الذي بات خاضعاً للحكومة الجديدة، بأن الليرة السورية هي العملة المعتمدة للتداول، تعاملت الأسواق بأريحية غير مسبوقة، متحررة من المخاوف الأمنية التي لطالما ارتبطت بتداول الدولار سرّاً، والتسعير الخفي بموجب أسعار صرفه، لا بموجب نشرات الأسعار الرسمية للسلع.

تلك الدولرة السرّية، التي كانت قائمة بحكم الأمر الواقع، على مدار سنوات، ظهرت للعلن. لكن، وللمفارقة، لم ينعكس ذلك سلباً على سعر صرف الليرة السورية، بل على العكس. وحدث ما توقعه عدد من الاقتصاديين السوريين، لسنوات مضت، ممن كانوا يناشدون سلطات النظام برفع القيود عن التعامل مع الدولار. إذ أتاح ظهور الدولار للعلن، ورفع القيود عن تداوله، عرضاً أكبر له، مما أدى إلى خفض سعر صرفه. وذلك حتى قبل أن يصدر قرار رسمي بإلغاء تجريم التعامل بالدولار، الصادر عن الرئيس المخلوع.

وفي هذه اللحظات، تعيش “سوريا الجديدة” مبدأ الرأسمالية الأولي الشهير: “دعه يعمل، دعه يمر”. مبدأ لو التُزم به، مع مكافحة الاحتكار، سترجع سوريا تلك التي كانت في خمسينات القرن الماضي، واحدة من الاقتصادات الصاعدة بقوة في الشرق الأوسط، قبل أن تنتكس إلى عهود تدخل الدولة الكارثي في الاقتصاد. تدخّل صارم ومُختَل، حُكِم بالآيدلوجية شكلاً، وبطغمة طامعة فاسدة، مضموناً، وصولاً إلى قاع السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع، التي قارب فيها السوريون حافة المجاعة.

وفيما يرفض كثير من السوريين اليوم، الخوض في المخاوف من اليوم التالي، ويصرّون على الفرح والتفاؤل، يبدو قلق آخرين مبرراً. فسوريا المستقبل، تواجهها تحديات عدة. منها، مدى التزام سلطة الأمر الواقع القائمة اليوم في دمشق، بتعهداتها السياسية والاقتصادية. بصورة خاصة، مكافحة الاحتكار. لكن يبقى أن فسحة الأمل لدى السوريين، تزداد اتساعاً. والرهانات على مستقبل أفضل، تصبح أكبر.

 

المصدر:المدن

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى