انتقد المفكّر المغربي عبد الله العروي منذ نصف قرن، في الخلاصة العامّة الواردة في كتابه “أزمة المثقّفين العرب” (1974)، طابع المداراة التي أصبحت سمةً ملازمة للعمل السياسي العربي، وأعلن ضرورة تجاوز النمط السائد في العمل السياسي العربي، بحكم أنه أنتج الخيبات والتراجعات المختلفة التي تملأ واقعنا اليوم. وفي مقابل ذلك، دافع بقوة عن لزوم العناية بالعمل الثقافي باعتباره الأرضية الضرورية الداعمة لإنجاز ما يمكن أن يساهم في تجاوز أوضاع التأخّر التاريخي، في الفكر والمجتمع والسياسة في مجتمعاتنا. وعندما تابعنا سنة 2011، أي قبل ما يزيد على عقد، الانفجارات التي ملأت الميادين العربية، ونتابع اليوم نتائج ما حصل فيها وتداعياته المتواصلة في الراهن العربي، ندرك قوة الفكرة التي دعا إليها العروي منذ عقود؛ إذ لا يمكن أن ننجح في نظره في تحقيق مشروع التحديث السياسي، الذي نتطلّع إليه من دون ثورة ثقافية، أي من دون تغيير في الذهنيات، الذي نفترض أن يحصل في المدرسة والجامعة والمعمل والمقاولة والحزب داخل المجتمعات العربية، ليشكّل عاملَ إسناد ضروري للتحديث والتقدُّم.
تتواصل أشكال المُداراة والغرور في العمل السياسي العربي، سواءٌ في الأنظمة أو في ممارسات النُّخَب داخل المشهد السياسي العربي، كما يتواصل تهميش العمل الثقافي في برامج العمل الحزبي، وفي أغلب مؤسّسات المجتمع. ويترتّب عن ذلك ما نراه مجسّماً في صور الانقسام الطائفي والعشائري والإثني، وصور التشرذم السياسي القائم اليوم في معظم المجتمعات العربية.
تدفعنا قراءة جديدة لمتغيّرات الراهن العربي، إلى التساؤل عن الاستقطابات السياسية والثقافية القائمة اليوم، بين النزوعات التقليدية والخيارات الرامية إلى الحداثة والتحديث في المجتمع العربي، عن دور الأفكار في التاريخ. وتدفعنا أيضاً إلى الانتباه للصعوبات التي تواجهها النُّخَب وهي تحاول تفعيل أنظمة الفكر والسياسة في مجتمعاتنا، بهدف محاصرة التقاليد السائدة وتفكيكها. وإذا كنا نؤمن بأن الصراع بين التقليد والحداثة، ما زال عنواناً بارزاً في المجال السياسي والاجتماعي في مجتمعاتنا، على الرغم من تنوُّع صور تمظهره وتجدّده في هذه المجتمعات، فإن هذا الأمر يدعونا إلى تركيب المواقف القاضية بضرورة اختراق سقف الخلل، الذي يهيمن على تصوّرنا للتاريخ، ولأهمية العمل الثقافي والسياسي في تجاوز أعطاب المجتمع.
يزداد أمر التغيير والتنوير في مجتمعاتنا، عندما ندرك أن اتساع فضاءات الواقع العربي وتنوّعها، أصبحت تستوعب اليوم دوائر جديدة لا حصر لها
لا نجازف عندما نقول إن كثيراً من خيارات العروي ومواقفه لا تزال حاضرةً في كثير من أسئلة مجتمعاتنا اليوم، وهي صالحة لمواجهة أسئلة تروم تحليل أزمة الثقافة والمثقّفين، في زمن حصلت فيه انتفاضات وانفجارات، أتاحت لنا أكثر من أي وقت مضى، الانخراط مجدّداً في مواجهة عوائق التحديث في مجتمعاتنا. ونتصوّر أن إلحاح العروي على أهمية التحوّل الثقافي وتغيير الذهنيات، في باب التفكير في كيفيات تحقيق التحديث الذي نتطلع إليه، ينطلق من إدراكه القوي لتعقُّد مجال الذهنيات، ذلك أن الانخراط العربي في نقل الوسائل والأدوات المادّية والتقنيات المتطوّرة إلى فضاء المجتمع، يحصل بإيقاع أسرع وأمضى من التحوّل الجاري في مجال الفكر والتفكير. لهذا السبب، انتقد أيضاً، في كتابه المذكور، ما سمّاه الحنين الرومانسي الذي تُقيم بواسطته النُّخَب التقليدية جسوراً من العلاقات الوهمية بالماضي، الأمر الذي يمنعها في نظره من رؤية تحوّلات المجتمع العربي.
نُذكِّر بملاحظات العروي، وقد كتبها قبل نصف قرن، لأنّنا نتصوّر أن الصراع السياسي والفكري في مجتمعاتنا ما فتئ يحمل العناوين نفسها، وإن تغيّرت بعض الْمُسمَّيات أو أصابها بعض التحوّل الجزئي في الدلالة التي تحملها، ويترتَّب عن ذلك، قناعتنا الراسخة بأن إشكالات الراهن العربي في أبعادها السياسية والثقافية، لا تنهيها معركةٌ واحدةٌ، وقد لا تَفْصِل فيها منازلات عديدة ينجزها المثقف والسياسي في زمن معيّن. يتطلّب الأمر كما نتعلّم من تجارب التاريخ، معاركَ عدّة لا تنتهي إلّا لتُستأنَف داخل مساحة زمنية تطول أو تقصر، للتمكّن من تحقيق الطموحات المفترض أنها أكثر تاريخية وأكثر نجاعةً.
يزداد أمر التغيير والتنوير في مجتمعاتنا، عندما ندرك أن اتساع فضاءات الواقع العربي وتنوّعها، أصبحت تستوعب اليوم دوائر جديدة لا حصر لها، وقد أصبح مجال الواقع الافتراضي يشكّل دوائرَ جديدةً، فاتّسعت مجالات العمل وأصبحت تستدعي أصنافاً جديدةً من العمل لم يكن لها في سبعينيّات القرن الماضي الحضور الذي أصبح لها اليوم. وعندما فكّر العروي في أسئلة التغيير السياسي والثقافي، خلال ستينيّات القرن الماضي وسبعينياته، لم تكن فضاءات التواصل الاجتماعي تحتلّ الموقع نفسه الذي أصبحت تحتلّه اليوم في واقعنا، الأمر الذي يتطلّب أسئلةً أخرى جديدةً في موضوعي الثقافي والسياسي، وموضوعي الثورة والتغيير.
كثير من خيارات عبد الله العروي ومواقفه لا تزال حاضرةً وصالحة لمواجهة أسئلة تروم تحليل أزمة الثقافة والمثقّفين
وعندما نتّجه اليوم للتفكير في معضلات التغيير السياسي في مجتمعنا، فإننا لا نتردَّد في القول إن معركة الإصلاح السياسي، التي نعيش جوانب من أطوارها منذ ما يزيد على عقدَيْن من الزمان لم تتَّجه لِفتح نقاش موسَّع في ما يُؤسِّس هذا الإصلاح. كذلك إن ثقافة التغيير السائدة اليوم لا تعتني بموضوع التفكير في أسئلة المجال السياسي في أبعاده النظرية الكُبرى، التي تمكِّننا من بناء فكر سياسي مطابق لمصيرنا التاريخيّ. لم تستطع الثقافة السياسية التي نشأت في هامش تجاربنا السياسية في العقدَين الأخيرَين، أن تبلور في نظرنا مشروعاً في الدفاع التاريخي عن الحداثة السياسية. وقد ترتّب عن ذلك ما نلاحظه من هشاشة ثقافة الإصلاح السياسي، المواكبة لتجاربنا في التحوّل الديمقراطي.
نعود اليوم إلى طرح سؤال التغيير والتنوير ليُشكِّل إطاراً عامّاً للتفكير في مآلنا السياسي، لنفسّر هزائمنا المتواصلة وأشكال تبعيتنا وعدم قدرتنا في مواجهة جنون الصهيونية والغرب الإمبريالي وغطرستهما. ولأننا لم نتمكّن من القيام بالحدود الدنيا من التضامن التي تمنح وجودنا قوةً ومناعةً، في عالم تسوده شرائع القوة، ولا يتعلّق الأمر في موضوع دفاعنا عن قِيَم التنوير في ثقافتنا ومجتمعنا، ونحن نفكّر في سؤال التغيير، بعملية نسخ لتجربة جرت في تاريخ غيرنا، وثقافة عصر الأنوار لا تزال مطلباً كونياً بامتياز، ذلك أن هذه القيم التي نشأت في سياق تاريخي محدّد، في القرنين السابع والثامن عشر في أوروبا، وهي تتعرّض اليوم لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلّي، وسياقات تاريخها الكوني، بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادّية وعوالمهم التاريخية، في كثير من مظاهرها وتجلّياتها.
المصدر: العربي الجديد