لعل ما حصل قبل أيام كان مفاجأة لا بل صدمة لم يكن أحد يتوقعها، وبالأخص الفريق الحكومي المهم الموجود، في أثناء مباراة الفريق الفرنسي أمام فريق دولة الاحتلال مكابي تل أبيب، وهو مقاطعة جمهور المشجّعين الواسعة وعزوفهم عن الذهاب إلى ملعب سان دوني لتشجيع فريقهم المتميز باريس سان جيرمان في دوري أمم أوروبا لكرة القدم. وصفت الصحيفة الرياضية “ليكيب” المباراة بأنها “أمر محزن، إذ لا يوجد أحد”، ووصفها الإعلام بأنها حدث تاريخي يقع أول مرّة في تاريخ فريق سان جيرمان. بينما مثّلت هذه المقاطعة أهم وأفضل تعبير عن مشاعر الشعب الفرنسي، ورداً قوياً وموقفاً مشرفاً إزاء الإجراءات الحكومية القمعية والملاحقات غير القانونية التي تتوالى بحق كل من يقف مع غزة منذ أكثر من عام. شاهد الفرنسيون وشعوب أوروبا الذين يتابعون اللعبة الأممية الملعب خالياً من المشجعين، رغم شراء 16 ألف بطاقة دخول، يجلس على مقاعده هنا وهناك من جاء من داعمي إسرائيل وأصدقائهم المدفوعة رحلاتهم بالكامل، وقلة من المشجعين، فيما امتلأت منصة المسؤولين بثلاثة رؤساء جمهورية، من ماكرون إلى ساركوزي وفرانسوا هولاند، وحضور رئيس الوزراء ميشيل بارنييه ووزير الداخلية برونو ريتايو وغيرهما من المسؤولين. جاؤوا ليعبروا كما قالوا عن دعمهم دولة الاحتلال وفريقها ضد ما يسمونها “معاداة السامية” التي تلاحق الإسرائيليين، حتى في الرياضة، وهو ما استهجنه الفرنسيون، وقبل أيام الهولنديون، حيث رأى المواطنون المشاهد الحقيقية لاعتداءات المستوطنين العنصريين ضد العرب في أمستردام وضد مظاهر دعم غزة وفلسطين من تمزيق للعلم الفلسطيني والاعتداء على سائق تاكسي لكونه عربياً وهتافاتهم العنصرية المجرمة في كل القوانين الأوروبية. هستيريا استولت على الإعلام الفرنسي المهيمن والداعمين للإبادة والاحتلال وصناع معادة السامية، الذين هاجوا في القنوات التلفزيونية ضد العرب، وأطلقوا تعابير من مخيلاتهم المريضة، مثل وصفهم الأحداث ضد مشجعي فريق مكابي العنصريين الذين هتفوا بشعارات فرحين بإبادة جيشهم أطفال غزّة “البوغروم” التي انتشرت بسرعة، وفي كل القنوات، لتصبح مفتاح الهجوم باسم “معاداة السامية”. هذه الأصوات ومعها الإعلام تغاضت عمدا عن حقيقة المشاهد والفيديوهات التي انتشرت تفضح أكاذيبهم التي تقول إن العنصريين الصهاينة هم من تسببوا في أعمال الشغب في أمستردام وهم من اعتدوا على العربي صاحب التاكسي ومزقوا الأعلام الفلسطينية على منازل الهولنديين، وتفوهوا بعبارات عنصرية وعبارات الكراهية ضد الفلسطينيين، وهو ما أثار حفيظة الفرنسيين الذين اطّلعوا على الفيديوهات في مواقع التواصل الاجتماعي كما غيرهم.
أصبحت هذه الأبواق العنصرية المفروضة في الإعلام على الشعب الفرنسي للتحريض والدعوة إلى الكراهية وبث الفرقة لا تطاق، ولا مصداقية لها، بسبب سنوات من تكرار الخطاب العنصري نفسه، وبسبب ظهور الحقائق، خصوصاً حوادث أمستردام التي قصمت ظهر خطابهم، وقامت بتعريتهم واحدا بعد الآخر. ليس ذلك فحسب، بل رفع الجمهور الفرنسي في بارك دو برنس قبل أيام من مباراة فريقه مع مكابي تل أبيب “تيفو”، هو نوع من لافتة ضخمة كتب عليها “الحرية لفلسطين” مع رسم علم فلسطين ملطخاً بالدماء وخريطة لفلسطين وعلم لبنان مع دبابات صهيونية ومقاوم ملثم بالكوفية، استنفر فيها الإعلام الفاشي المهيمن وصبّ جام غضبه على العرب والمسلمين وخطاب حزب “فرنسا الأبية” ونوابها وأعضائها، بحجة أنهم من يصنع اليوم معاداة السامية وهم السبب في زيادة عدد الحوادث والاعتداء على يهود فرنسا التي يدّعي وزير الداخلية أنها وصلت مرة إلى 1000% عقب أحداث 7 أكتوبر(2023) وأخرى بعد إنزالها إلى 300% من مجلس المؤسسات اليهودية، وأن هذا الحزب ونوابه يحرضون على الكراهية بخطابهم الداعم للشعب الفلسطيني. وقد طلب وزير الداخلية من فيدرالية كرة القدم منع مثل هذه اللافتات لكن الاتحاد أجاب بأن اللافتة غير مسيئة ولا يمكن منعها.
إجراءات التوقيف تستمر وتتوسّع، لتشمل تفاصيل صغيرة لتصويب الحقائق التي تزَيف في الإعلام المهيمن في فرنسا وبعض الدول الأوروبية
وعقب هذا الحادث وتحسبا للمباراة القادمة في ملعب سان دوني، أصدر وزير الداخلية أمرا بمنع العلم الفلسطيني في المباراة وسمح فقط للعلمين، الفرنسي والإسرائيلي، بل رفض الرئيس ماكرون إلغاء المباراة بعدما أوصى رئيس الشاباك بعدم ذهاب منتخبهم إلى باريس ووعد بتأمين مشدد لوفدهم الرياضي ولمشجعيهم، لكن ذلك شجع الصهاينة أكثر على الإساءة، إذ أطلقوا صفارات الاستهجان عند عزف النشيد الوطني الفرنسي، وضربوا مشجعا فرنسيا اعترض على تصرفهم، من دون أن تتحرّك الشرطة الموجودة بكثافة لمنع هذه الاعتداءات، فما كان إلا أن قابل المشجعون الفرنسيون الصهاينة بالمثل عند عزف نشيد الكيان، بل لفّ مشجعون، مثل إيمانويل هوارو، الأعلام الفلسطينية على بطونهم لعبور التفتيش وأدخلوها ورفعوها في الملعب. وعلق على ذلك في منصة إكس: لا يمكن لأي إجراء يقيد حرية التعبير أن يجعلنا ننسى المذبحة المستمرّة ضد المدنيين في غزة. وكتب ايان غابيه هذا التويت الشجاع على منصة إكس بعد المباراة: فشل ذريع. كان الملعب فارغا، لقد قاطع الفرنسيون بشكل واسع مباراة فرنسا وإسرائيل، لا تنسوا أبدا: المسؤولون ليسوا هم الشعب، نحن غير متعاطفين مع تواطئهم.
وقبل يوم من المباراة، وخلال التظاهرة الباريسية الكبيرة التي ضمت أكثر من ثلاثين ألف شخص، خرجت احتجاجا عليها، كانت الشرطة تتفرّج على أعمال تخريب المحال التجارية من مليشيات الصهاينة الملثمين بالكوفية الفلسطينية، رغم التبليغات التي أوصلها المتظاهرون إليهم أن هؤلاء ليسوا عرباً، لكنهم امتنعوا عن التدخل.
شهد الشعب الفرنسي والعالم بفضل عملية طوفان الأقصى كيف يصنع الصهاينة قطعة قطعة تهمة معاداة السامية في كل بلد
ورغم التقارير التي أصدرتها المقرّرة الأممية، فرانشيسكا ألبانيز، عن استخدام معاداة السامية من الأوساط الحكومية الأوروبية، ومنها الفرنسية، إلا أن إجراءات التوقيف تستمر وتتوسّع، لتشمل تفاصيل صغيرة لتصويب الحقائق التي تزَيف في الإعلام المهيمن في فرنسا وبعض الدول الأوروبية، كما حصل مع نائبة حزب فرنسا الأبية “ماري مسمير” التي أجابت في تعليق لها على سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي المتملق الذي اعتبر ما حصل في أمستردام “إعداماً” لليهود بالقول إن ما حصل ليس لأنهم يهود، بل لأنهم عنصريون يدعمون الإبادة. … لتصبح هذه الإجابة قضية وطنية، رفع وزير الداخلية على أثرها شكوى ضد النائبة التي أصبحت تشتم طوال الليل والنهار على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ما كتبته، فيما يتم الاعتداء مجددا على النواب إيمريك كارون وتوما بورت ولويس بويار الناشطين في دحض الروايات الكاذبة للإعلام من دون أن توفر وزارة الداخلية الحماية لهم أو تلاحق المعتدين عليهم وتوقفهم. كما منعت الشرطة ندوة في ليون للمحامي الفرنسي صلاح حمراوي من أصل فلسطيني عن موضوع المقاومة بين الاحتلال والسجن والمنفى، بحجّة أن هذه الندوة قد تؤدي إلى الإدلاء بتصريحات معادية للسامية!؟
لقد شهد الشعب الفرنسي والعالم بفضل عملية طوفان الأقصى كيف يصنع الصهاينة قطعة قطعة تهمة معاداة السامية في كل بلد، وفضحت الإجراءات الحكومية الفرنسية والهولندية وغيرها من الدول الداعمة لدولة الاحتلال صناعة هذه التهمة حسب الطلب لتكميم الأفواه ولنزع الشرعية عن القضية الفلسطينية ودعم هذه الحكومات الاحتلال ولمصادرة الأراضي الفلسطينية وإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه.
رغم توسع إجراءات الاتهام بمعاداة السامية حكوميا في فرنسا، إلا أن الدعم الشعبي ونشاط منظمات المجتمع المدني وحزب فرنسا الأبية لوقف الحرب ودعم غزّة وإدانة حرب الإبادة والمجازر ضد الشعب الفلسطيني والمطالبة بعقوبات على حكومة اليمين الإرهابي المتطرّف برئاسة نتنياهو مستمرّان بشكل منتظم بل يتفنن الناس العاديون والناشطون بإيجاد أفكار أخرى في مواجهة الآلة البوليسية والإعلام الفاشي منها الدعوة إلى رفع العلم الفلسطيني على نوافذ البيوت، وتشكيل كتلة حزب فرنسا الأبية ومعه بعض أعضاء اليسار وأعضاء من أحزاب أخرى اليوم مجموعة للصداقة الفرنسية الفلسطينية بنجاح في البرلمان، حيث استغل الحزب وجود غالبية له في مكتب الجمعية الوطنية بعد الانتخابات النيابية أخيراً، وتقدّم خطوة مهمة في برنامجه الهادف إلى إعلان الدولة الفلسطينية.
المصدر: العربي الجديد