عندما يحلم رئيس الحكومة المغربية بـ”مَلَكِيّة أقلّ”

عبد الحميد اجماهيري

هل يتمرّن رئيس الحكومة المغربية، الملياردير عزيز أخنوش، على المَلَكية البرلمانية، حلماً يراوده هنا والآن؟ … صار السؤال راهناً في الساحة السياسية المغربية منذ الخروج الإعلامي الصارخ للوزير السابق، وسفير المغرب في جنيف، والمبعوث الأممي الخاص في ليبيا محمّد أوجار، فقد أطلق القيادي في حزب التجمّع الوطني للأحرار، الذي يقود الحكومة حالياً والمعروف بتحفّظه في الكلام ووسطيته منذ طلَّق الأفكار اليسارية المتطرّفة، التي اعتنقها طالباً في جامعة محمّد الأول بوجدة… نقول أطلق القيادي النار على تعيينات ملكية في مجالس الحكامة، وهي عشرة مجالس يعيّن رؤساءها ومندوبيها السامين الملك محمد السادس شخصياً، سلطةً حصرية له دستورياً.
محمد أوجار، الذي كان يشارك في ندوة سياسية فكرية، صبَّ جام غضبه على “وجود تيّار يساري واحد في رأس هاته المجالس (المجلسين الاقتصادي والاجتماعي، والمجلس الأعلى للتعليم، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان)”، في إشارة إلى نُخبَة من الإطار، المنتمية إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المصطفِّ حالياً في المعارضة. كما كان وزير في الحكومة الحالية (يرأسها أخنوش)، باسم حزب محمد أوجار، سبق له أن هاجم مجلساً آخر هو الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة، من خلال انتقاد رئيسه البشير الراشدي، الذي كشف أن الفساد يكلّف المغرب 50 مليار درهم سنوياً، وأن منسوبه ارتفع مع الحكومة الحالية، في حين اختار قياديون آخرون مجالس أخرى من قبيل المجلس الأعلى للحسابات، الذي نال نصيبه من هجوم الطالبي العالمي، رئيس الغرفة الأولى في البرلمان (انظر في “العربي الجديد”؛ “في الفساد والتضادّ بين الحكومة والحكامة‫ بالمغرب”، 27/6/2023؛ “هذا الجدل في المغرب… قوة التعيين وقوة الانتخاب”، 14/5/2024؛ “الحرب الروسية تفجر علاقة الثروة والسلطة في المغرب”، 26/4/2022).

 هاجمت المعارضة الشراهة السياسية التي تسعى إلى التحكّم في مسارات التعيينات وفضاءات ممارسة السلطة والسياسة

ويزيد من الدلالة السياسية لهذا الاحتكاك بين الحكومة ومجالس الحكامة أن هذه المجالس موجودة بقوة الدستور، إذ تنصّ (الفصول 161- 170) على وجود مؤسّسات الحكامة هاته (المقصود بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والوسيط، ومجلس الجالية المغربية في الخارج، والهيئة المُكلّفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، ومجلس المنافسة، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي). الوزير السابق، والقيادي في حزب رئيس الحكومة، أعطى للموضوع صبغةً احتجاجيةً وحجاجيةً، إذ لمّا قاطعه صحافي بأن التعيينات في هاته المجالس اختصاص ملكي، لم يتردّد المتحدّث في القول: “لا بدّ أن نشير بكل الوقار إلى جلالة الملك أن الجهات التي تقترح هذه الأسماء يجب أن يعاد فيها النظر”. وهذه الجهات، بالتوضيح العام، هي الديوان الملكي، أي محيط الملك محمد السادس. وبغضّ النظر عن المُضمرات التي تجعل رئيس الدولة وملكها “لا يتحكّم في لائحة ما يُعرض عليه”، أو أن الجهة التي تقترح على الملك “تُدلِّس عليه لكي يبقى لها الحسم في النهاية”، فإن دعوةً مثل هاته أعادت إلى الأذهان حالةَ الاحتقان غير المسبوقة في واحدةٍ من مراحل العلاقة بين الديوان الملكي ورئاسة الحكومة في عهد عبد الإله بنكيران، زعيم حزب العدالة والتنمية (الإسلامي). وبنكيران سبق أن ذهب بعيداً عندما دعا، في تجمّع انتخابي له في استحقاقات 2016 (أكتب من الذاكرة)، إلى “اختيار المحيط الملكي بواسطة الاقتراع”.
كان للتصريحات التي أطلقها الوزير سابقاً صدىً كبير في أوساط المتتبّعين، تراوحت بين من يستهجن فيه “نزعة التطهير الأيديولوجي”، ومن يصف ما يجري نوعاً من “الانقلاب السياسي”، وبين من يعيب عليه أنه “أساء التوصيف”، باعتبار أن المعنيين صاروا رجال دولة وليسوا نُخبَة حزب”. غير أن الحوارات لم تقف عند السجال في الشارع السياسي العام، إذ سرعان ما انتقلت إلى البرلمان، فلم يترك الحزب الاشتراكي للقوات الشعبية الفرصةَ تفوت بمناسبة مناقشة مشروع قانون المالية في الأسبوع الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لطرح الموضوع، كما لم يترك التصريحات عند طابعها الفردي الشخصي المُلزِم لصاحبها فقط، بل اعتبرها موقفاً للحكومة ولرئيسها، فتوجّه إليه رئيس فريق المعارضة الاشتراكية عبد الرحيم شهيد بالقول: “شراهتكم للمناصب جعلتكم تلهثون وراء المناصب التي توجد خارج اختصاصات حكومتكم ورئيسها”، وهو تصريح واضح، لأن التعيينات هنا من خارج اختصاص الحكومة ورئيسها، هي تعيينات الملك. وبهذا المعنى، هاجمت المعارضة الشراهة السياسية التي تسعى إلى التحكّم في مسارات التعيينات وفضاءات ممارسة السلطة والسياسة، كما هو حال مجالس الجماعات القروية والجماعات الحضرية، ومجموعات الجماعات الترابية، ومجالس المقاطعات، ومجالس الأقاليم، ومجالس العمالات والجهات، والوكالات الوطنية، والمؤسّسات والمقاولات العمومية، والمناصب العليا بالوظيفة العمومية، بعد الهيمنة على البرلمان بغرفتيه والحكومة… وهو ما اجتهد زعيم الاتحاديين المغاربة في تسميته “التغوُّل”، الذي أصبح التوصيف المعتمد من معارضين عديدين.
لقد تعمّدت المعارضة نقل السجال من فضائه العام، المبني على دينامية السجال السياسي المفتوح، إلى الفضاء المؤسّساتي البرلماني لتعطيه حمولته السياسية، وتعرض مناقشته، إذ “تتجسّد المَلَكية البرلمانية”، كما هي مضمرة في تصريحات القيادي في حزب الحكومة محمّد أوجار، وفي انتقادات الآخرين التعيينات التي تهمّ مجالس الحكامة. وإذا كان عديدون من المحامين ورجال القانون، وكذلك بعض السياسيين، قد مالوا إلى السجال مع الوزير السابق بصفته الذاتية، فيبدو أن رئيس الحكومة لن ينجو من حرج مواجهة ما عبّر عنه زميله في التجمّع الوطني للأحرار، وبات عليه أن يجيب على ما هو مُضمر في هذا الصراع الخطابي مع مجالس الحكامة: فهل سيتبنى الصراع من أجل “مَلَكية أقلّ” في تدبير البلاد، في وقتٍ لم تعد نقطة ذات أولوية حادَّة على الأجندة السياسية، منذ دستور 2011، الذي حسم مصدر سيادة الأمّة، وطريقة ممارستها، من طريق الاقتراع (الفصل الثاني)، أم سيكتفي بمُسايَفَة بعض مهندسي المحيط المَلَكي، كما يجري الهمس بذلك في الوسط السياسي المغربي في كلّ مرحلة، من أجل توسيع “تراب الحكم” بالتحكم في مَوَاطِن أخرى للتعيين؟
وفي انتظار خروج رئيس الحكومة عن صمته، فإن أمامه دعوة صريحة إلى “امتلاك الوضوح الكافي والشجاعة للدعوة إلى تعديل دستوري”، كما طالبته القيادة الاشتراكية المعارضة، وأن يبادر إلى موقف يزيد من توضيح العلاقة بين الحكومة والديوان الملكي، علماً أنه لم يسبق لهذا الحزب أن كان سبّاقاً إلى طرح المعادلة الدستورية في الحكم بالمغرب، هو الذي رأى النور أيام الحسن الثاني، من خلال “تجميع” مرشّحين “أحرار”، اتهموا وقتها بأنهم “خيول السباق” عند الإدارة المتحكّمة في الخريطة الانتخابية. وقد قادهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد عصمان إلى تكوين حزب ظلّ يلعب دور الميزان في حياة سياسية متلاطمة، وهو رجل محترم، وكان صهر الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله. وكانت له مواقف شجاعة، أبرزها وقوفه في وجه الملك الراحل عندما قرّر حلّ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعدما عارض زعيمه الراحل عبد الرحيم بوعبيد قرار الحسن الثاني بقبول الاستفتاء في الصحراء في قمّة نيروبي الثانية سنة 1981.

أمام رئيس الحكومة المغربية دعوة صريحة إلى “امتلاك الوضوح الكافي والشجاعة للدعوة إلى تعديل دستوري”، كما طالبته القيادة الاشتراكية المعارضة

لقد سبق لكاتب هاته السطور أن طرح الموضوع مراراً في مقالات صحافية، كما حدث أن وقف مع أعضاء لجنة النموذج التنموي الجديد (“النموذج التنموي الجديد… ثورة الدولة على نفسها”: “العربي الجديد”، 24/12/2019) ، الذي دعا إليه الملك، وشكّل لهذا الغرض لجنةً مختارةً بعناية شديدة للسهر على حوار وطني بخصوصه، (وقف) على منطقة الالتباس المحتملة في الشراكة الدستورية بين محيط الملك والحكومة، بناء على الدستور الذي أراده الملك نفسه. وسمعت من اللجنة ما يفيد بأن ذلك كان محور مناقشة. وكان لافتاً في ذلك الوقت أن اللجنة، عند تقديم أعمالها للملك في فاس في مايو/ أيار 2021، اقترحت اعتماد آليتين لتفعيل النموذج التنموي “أولاهما ميثاق وطني للتنمية لتكريس التزام القوى الحيّة للبلاد، وثانيتهما آلية تعمل تحت إشراف الملك لتتبع وتحفيز الأوراش الاستراتيجية وقيادة التغيير”.
وكان لافتا أن المقترح الثاني سقط من بلاغ (بيان) الديوان الملكي، الذي صدر إثر الاستقبال، وهوما لم يفت الطبقة السياسية الانتباه إليه، وما يعكس زاوية النظر الملكية التي تحترم الدستور احتراماً صارماً. ويرى كثيرون في المغرب أن الحكومة لا تلمع كثيراً في ممارسة سلطة التعيين المخوّلة لها، كما حدث في آخر تعديل، وفي لائحة المُقترَحين لمناصب مهمّة من قبيل دواليب الدولة الاجتماعية. وهو ما يرمي ظلالاً كثيرة على النقاش الذي اجترحه القيادي في الحزب الذي يقود الحكومة، ويعزّزه أعضاء في الحكومة والبرلمان، بانتقاد مجالس وجدت لتقوية ربط المسؤولية بالمحاسبة، مطلباً دستورياً حاسماً.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى