مجرد نظرة طائر على بعض من تفاصيل الحياة فى المدن العربية تشير إلى أزمات دولة القانون والحق، وعدم التزام غالب الجمهور/ “المواطنين”- أو الجماهير الغفيرة – ، بالقواعد القانونية، فى قانون المرور، فى السير فى المسارات المحدد للمشاة، وفى التزام أصحاب العربات الخاصة، والمركبات العامة، والتجارية بالقواعد المنظمة للسير فى الطرق الرئيسة، أو الفرعية، فى وسط المدن واحياءها الكبرى- الشعبية، أو المتميزة التى يسكن بها الأثرياء ، نظرة علي خرق قوانين البناء وبعض العشوائية في الخروج علي التصميمات الهندسية لها تبدو صادمة لفرط تشويهها للتخطيط العمراني ! محض نظرة ولو عابرة علي أداء المؤسسات والهيئات العامة، والأجهزة البيروقراطية، تمنح الناظر إليها صورا لأشكال من الفساد فى الوظيفة العامة، وعدم التزام الموظفين العموميين، بالضوابط القانونية والإدارية في سلوكهم وتكاسلهم ، وعدم تقديم الخدمات العامة لطالبيها من “المواطنين” إلا من خلال تقديم الرشاوى لبعض الموظفين الفاسدين. التعدى على أراضى الدولة، واصطناع بعض المستندات الدالة على حيازة بعض من هذه الأراضى، بالتوافق مع بعض الموظفين المختصين لقاء الرشي ، نظرة علي المصارف العامة والخاصة ومنح القروض الكبيرة بالأوامر من مواقع القوة الكبرى في السلطة دونما ضمانات تسوغ منحها .استيراد بعض كبار رجال الأعمال، أو التجار في دول العسر لبضائع منتهية الصلاحية -من الأغذية أيا كانت- ويتم تمريرها من الجمارك، والجهات الطبية، والرقابية، من الموانئ، ثم يتم بيعها فى جميع أنحاء البلاد دون مراعاة للصحة العامة ” للمواطنين “.
أشكال عديدة من الانحرافات والتجاوزات للقوانين يمكن رؤيتها روئ العين في المجتمعات العربية يسرا وعسرا يمكن رؤيتها، دونما فحص ، أو تحليل تكشف عن حالة اللا قانون واللانظام السارية فى عديد من البلدان العربية.
فى الأرياف، والبراري، تواجه العيون والآذان بقانون القوة والأعراف يسيطر في غالب المنازعات حول ملكية الأراضى، وحيازتها، أو المشاجرات التى ترتكب فيها جرائم معاقب عليها فى قانون العقوبات أو القانون الزراعى، أو غيره من القوانين !
كل هذه الظواهر الاجتماعية المستمرة وغيرها منذ دولة ما بعد الاستقلال دالة على غياب القوة الرمزية والمادية للقانون ، وتجاوزها فى السلوك اليومى الفردي وشبه الجمعي ، حيث يغيب الوعى القانونى فى المجتمعات العربية، والسؤال الذي يطرح غالبا لماذا؟
ثمة عديد الأسباب التاريخية، والمستمرة منذ ما قبل الاستقلال إلى ما بعد الاستعمار الغربى، ويمكن رصد بعضها فيما يلى:
1- انتشار الأمية القرائية والكتابية، وأمية المتعلمين على نحو جعل هناك فجوات واسعة بين اللغة القانونية الاصطلاحية، وبين غالبية “المواطنين”، وأيضا تفاقم مشكلة العلم بالقوانين بعد إصدارها، ونشرها فى الجرائد الرسمية للدول العربية، مشكلة الأمية القانونية أدت إلى تفاقم أزمة الوعى القانونى لدى جمهور المخاطبين بأحكامه.
2- المبادئ القانونية العامة والمبسطة غائبة فى التنشئة الاجتماعية، والتعليمية، والسياسية على نحو أدى إلى هيمنة ثقافة اللا نظام، بل والفوضى فى المدرسة، والمنزل، والشارع، والقرية، وهيمنة أعراف تجاوز القانون فى السلوك الاجتماعى فى حياة الأطفال والصبية، والشباب، فى ظل تنامى، وهيمنة ثقافة اللا نظام فى الحياة الفردية، والجماعية ، وخاصة في ظل عسر الحياة للأغلبيات الشعبية والفئات الوسطي الصغيرة والبورجوازية الرثة ، وتضاؤل الفرص الاجتماعية أمامها، ومن ثم تفشي السلوك المناهض للقانون في محاولات اقتناصها الصعبة في الصراع عليها مع الآخرين .
3- الانفجارات السكانية المتنامية فى عديد دول العسر العربية أدت إلى تجاوز إمكانيات أجهزة الضبط الشرطية، ومكافحة الجرائم، وإقرار النظام العام، وباتت قدراتها محدودة على فرض قانون الدولة، فى الحياة اليومية، وأيضا فى مواجهة الفساد الوظيفى، فى أجهزة الدولة، أو الرقابة على سلوك الموظفين العموميين، وانحرافات بعضهم!
4- ترييف السلوك الاجتماعى المدينى كنتاج لموجات الهجرة المتلاحقة من الأرياف، والبوادي العربية إلى المدن المكتظة بالسياسة، وترييف المدن شبه “الحديثة” منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، والثانية، ومع دولة رأسمالية الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال ، حتى المرحلة الحالية! لا شك أن فوضى المدن المريفة، شكل تناقضا مع ثقافة دولة القانون الحديث ابن الدولة القومية، والمدن الحديثة، والثورات الصناعية المتلاحقة فى المجتمعات الغربية.
5- غياب مفهوم الزمن ونظامه فى المدن والأرياف والبوادى العربية، فى السلوك الاجتماعى للمواطنين، كجزء من ثقافة الأرياف، والبوادى، ولمفاهيم الجبرية الدينية الشعبية السائدة فى ثقافات ووعى الأفراد فى هذه المناطق، وهى مفاهيم نافية للإرادة الفردية، والمسئولية، وهو ما يشكل تناقضا مع القانون الحديث وما بعده، الذى يتجاوز التفكير القدرى واساطيره ومروياته الشعبية، الذى يسود الثقافات الشعبية العربية.
6- شيوع الأنامالية الشخصية فى الوعى الفردى والجمعى إزاء انتهاكات الآخرين للقواعد القانونية.
7- قيام بعض الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيين والدعاة الرسميين ، ودعاة الشوارع والمركبات العامة بإقامة تناقضات عقائدية بين القوانين الحديثة، وبين العقيدة والشريعة، على الرغم من عدم تناقض شبه كلى مع القواعد العامة لنظام الشريعة ومفهوم المصلحة، والعرف.. الخ -كمصادر للشريعة-، وذلك لتحريض أتباعهم على عدم احترام قانون الدولة، وشرعيتها من وجهة نظرهم -الخاطئة- وشرعية القانون الوضعي الذي يتناقض مع العقيدة والشريعة !
8- شيوع القيم الاجتماعية السلبية مثل قيم الكذب والمراوغة، والازدواجية، والأقنعة التى يرتديها رمزيا الأفراد بحسب مصالحهم ونوياهم ومطامحهم ومكنوناتهم السوسيو نفسية ، وما بين التدين الشكلى، الظاهري ، والسلوك الفعلى المناهض له.. الخ وهى قيم سلبية، تلعب دوراً بالغ الخطورة فى عدم الامتثال لقانون الدولة فى السلوك الفردى وشبه الجمعى.
9- المجالس البرلمانية العربية هى جزء من نظام دمج السلطات الفعلى المسيطر منذ الاستقلال ، او التعددية السياسية الشكلية المقيدة على عكس النظم الدستورية الشكلية، ومن ثم غالباً ما يتم الموافقة على مشروعات القوانين المقدمة من السلطة التنفيذية، بقطع النظر عما إذا كانت هذه القوانين تتوافق مع التوازن فى المصالح الاجتماعية أم تتناقض؟! ناهيك عن غلبة القوانين المقيدة للحريات العامة فى البلدان العربية، التى أدت إلى شيوع إدراك شبه جمعى، بأن القوانين تعنى نفى الحرية، وليست دعماً لها!
لا شك أن الأسباب السابقة وغيرها أثرت على تكوين الوعي الفردى وشبه الجمعى بالقانون وساعدت على تكريس أزمة القانون الحديث فى عالمنا العربى وتتطلب دراسة كل حالة عربية من منظورات إصلاحية تقيم التوازن بين الحرية والنظام وبين المصالح الاجتماعية المتصارعة فرديا وطبقياً.
المصدر: الأهرام