مَن مع مَن في منطقتنا ولمصلحة مَن؟

عبد الباسط سيدا

يشبه مشهد الانقسام المجتمعي في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى، إلى حدٍّ ما، حالة الانقسام الحماسي بين جماهير كرة القدم. وتزيد الحماسة والتفاعل، كلما كثُرت المفاجآت غير المتوقّعة التي تؤدّي إلى ارتفاع وتيرة التعاطف مع هذا الفريق أو ذاك، غير أن هذه المقارنة تظلّ مجرّد مقارنة شكلية، تبسيطية، لا تتوافق مع طبيعة طرفي المقارنة ودوافعها وأهميتها. ففي وضعية المباراة، تظل المواقف في نطاق العواطف والهيجانات التي سرعان ما تتناقص حدّتها، وتأخذ طرق التهدئة، إلى أن تختفي في نهاية المطاف.

وبالنسبة للحرب الإسرائيلية المتوحشة على مجتمع غزّة المدني؛ لاسيما من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، وعمرانها؛ فهي تحرّك أعمق المشاعر، وأكثرها ألماً ومرارة عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين الذين يشعرون بغبن كبير نتيجة حرمان الفلسطينيين من دولتهم وحقوقهم المشروعة؛ وهويتهم التي بها يعتزون، إلى جانب التهديدات المستمرّة التي تتعرّض لها مقدّساتهم.

وما يزيد من درجة قساوة هذا الشعور، خاصة عند الفلسطينيين، تقاعس الدول العربية دبلوماسياً لتمكين الفلسطينيين من طرح قضيتهم بقوة في المحافل الدولية، وذلك في مناخ حصول تحوّلات إيجابية في المزاج الدولي العام على المستوىيين الشعبي والرسمي لصالح القضية الفلسطينية. هذا في حين أن الدول العربية تلوم الفلسطينيين لإنقسام صفوفهم، ومراهنة الفصائل الإسلاموية منهم على المشروع الإيراني وأذرعه، وهو المشروع الذي يقدّم نفسه بوصفه “محور المقاومة والممانعة” و”المدافع العنيد” عن الحق الفلسطيني، و”الرافض” مختلف صيغ التسويات التي كانت، أو التي ستأتي بين الدولة العربية وإسرائيل.

استخدام الشعارات التي تثير انفعالات دينية أو قومية، أو تتصل بمواضيع قديمة جديدة متجدّدة، مثل موضوع تحرير القدس الذي كان أداة للمنافسة، والتعبئة والتجييش؛ بقصد إقناع الناس

لا جديد في القول إن استخدام الشعارات التي تثير انفعالات دينية أو قومية، أو تتصل بمواضيع قديمة جديدة متجدّدة، مثل موضوع تحرير القدس الذي كان أداة للمنافسة، والتعبئة والتجييش؛ بقصد إقناع الناس. وقد عرفت منطقتنا هذا الأسلوب منذ أيام الدولتين العباسية والفاطمية؛ ومن ثم دخول الزنكيين والأيوبيين على الخط، حتى انتهت الأمور بزوال الدولة الفاطمية، ومن ثم الدولة العباسية، وهكذا وصولاً إلى المآلات اللاحقة التي لا يسمح المجال والاهتمام هنا بالتوسّع فيها.

ومع الانقلابات العسكرية التي كانت في الدول العربية الجمهورية، تم رفع شعارات تحرير فلسطين، لإضفاء مسحة من الشرعية على حكمها الذي كان يفتقر إلى أيٍّ من أوجه الشرعية المعروفة؛ سواء الديمقراطية الانتخابية، أم الملكية الوراثية المستندة إلى صيغة من المبايعة إو الشورى، أو غيرها من تلك التي كانت تعكس موافقة شعبية، حتى ولو في حدودها الدنيا الشكلية.

وفي بداية الثمانينات، كان التفاهم بين النظامين، الأسدي والإيراني، في أجواء الحرب العراقية الإيرانية؛ وكان التوافق على تشكيل حزب الله تحت شعار “مأسسة “المقاومة” في الجنوب اللبناني؛ وكان لكل طرف مآربه بطبيعة الحال، فحافظ الأسد كان يريد قطع الطريق أمام الفصائل الفلسطينية، بزعامة ياسر عرفات. بينما كان النظام الإيراني يسعى، بكل الطرق، للوصول إلى المتوسّط بغية تصفية الحسابات مع نظام صدّام حسين. وما يُسجل لحافظ الأسد في هذا المجال أنه، رغم تحالفه العميق مع النظام الإيراني، كان يولي التوازنات الإقليمية، ومع الدول العربية على وجه التحديد، أهمية خاصة. لا يخضع بصورة كاملة للحليف الإيراني الذي لم يكن يخفي نزوعه نحو الامتداد في المنطقة، بالخلط بين المذهب والسياسة، واستغلال المظلوميات الشيعية، والظهور في مظهر القوة الإسلامية الواعدة. في حين أن بشّار الأسد أّخلّ بتلك التوازنات التي كان والده يحرص عليها، وسلّم جميع أوراقه إلى النظام الإيراني، بل إلى حسن نصرالله الذي كان يُعامل في ذلك الحين من غالبية المسلمين والعرب والسوريين بوصفه بطل تحرير الجنوب اللبناني.

استغلت إسرائيل عملية طوفان الأقصى، لتبدأ هجومها العنيف، بل المجنون، على غزّة. وكأنها كانت تنتظر الأمر ليكون مدخلاً للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، وفي لبنان وسورية تحديداً

ومع سقوط حكم صدّام وتفاعلاته ونتائجه؛ وهجوم “القاعدة” على مركز التجارة العالمي في نيويورك؛ وسقوط نظام حركة طالبان في أفغانستان؛ وحدوث فراغ كبير في المنطقة، وجد النظام الإيراني الفرصة باتت سانحة أمامه للتمدّد في الشرق والغرب؛ حتى ساد انطباع عام بين الناس أن الجانب الأميركي قد أناط بإيران الدور الذي كان الشاه الإيراني يقوم به.

وبغضّ النظر عن التفصيلات، كان من اللافت، في مختلف محطّات الأحداث اللاحقة، اعتماد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل سياسة غض النظر تجاه تدخلات إيران وأذرعها، بل والتحكّم الإيراني في شؤون دول عربية أساسية، والهيمنة على سيادتها وحكمها، سواء المحيطة بإسرائيل أو التي تمتلك احتياطات نفطية كبيرة، أو محاذية لمنطقة الخليج حيث منابع النفط والغاز، هذا فضلاً عن التغلغل إلى الداخل الفلسطيني، الأمر الذي من المفروض أنه يمثّل الخط الأحمر بالنسبة لإسرائيل.

وكان من نتائج هذا التدخل خلخلة تلك المجتمعات والدول، وترسيخ بواعث الفرقة، وانعدام الثقة على الصعيد الوطني بين الشيعة والسنة بصورة عامة. وقطع الطريق أمام التحوّلات الديمقراطية الإصلاحية التي مثلت محور المطالبات الشعبية في أثناء موجات الربيع العربي، والأولى منها على وجه التخصيص التي شملت تونس ومصر واليمن وسورية. ورغم أن الأخيرة دولة مفتاحية مؤثرة؛ صمتت إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، في مواجهة مساندة إيران وأذرعها سلطة بشّار الأسد، وقمع الثورة السورية التي طالبت بالحرية والكرامة والعدالة. حتى تبلور لدى الناس إحساسٌ، مدعوم بمعطياتٍ كثيرة، ماهيته أن ما يفعله حزب الله، وتفعله إيران، في سورية يخدم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لا يهم ما دامت النتيجة هي نفسها، الحسابات الإسرائيلية التي تأخذها الولايات المتحدة بالاعتبار عادة. وفي ضوء هذا التوجّه، برزت رغبة أميركية، وحتى غربية، في التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وترويج فكرة الانسحاب من الشرق الأوسط، بذريعة أن التحولات الجيوسياسية الجديدة على المستوى العالمي تدفع الولايات المتحدة إلى إعطاء الأولوية لمنطقة جنوب شرقي آسيا التي تمثل الصين فيها خصماً جدياً للولايات المتحدة في الميادين التقنية والتجارية، وحتى العسكرية الاستراتيجية. ولكن ما حصل أن إسرائيل استغلت عملية طوفان الأقصى، لتبدأ هجومها العنيف، بل المجنون، على غزّة. وكأنها كانت تنتظر الأمر ليكون مدخلاً للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، وفي لبنان وسورية تحديداً، وربما اليمن كذلك؛ وقد يشمل ذلك العراق أيضاً. ولكن الاعتقاد السائد هنا أن التحولات ستكون في الدولتين الأخيرتين، إذا ما تمت، بإرادة الولايات المتحدة وحليفاتها من الخاصة المصطفاة من الدول الأوروبية؛ وعلى الآغلب ستكون هناك تفاهمات مع النظام الإيراني بشأن نفوذه ودوره في الإقليم.

لا بد من وضع الجزئيات ضمن سياق اللوحة العامة؛ وعدم التوقف عند التفصيلات والاكتفاء بها، كما يفعل جمهور كرة القدم

أما تسليم أربع دول، وقطاع غزّة، إلى الإيراني، فهذا لن يستقيم استراتيجياً مع الحسابات الإسرائيلية والأميركية الغربية على وجه العموم، فبعد أن أدّى النظام الإيراني وأذرعه الدور الوظيفي المطلوب منهم، جاء وقت ضبط المعادلات، وتحديد مساحات التحرّك المسموح. ولكن، كما للدول اعتباراتها، وتطلعاتها، للشعوب أيضاً تطلعاتها وطموحاتها، وحقوقها المشروعة. ولا يمكن للأوضاع أن تستقرّ بشكل طبيعي في الإقليم من دون الإقرار بحقوق هذه الشعوب، ومساعدتها، بتعاون دولي إقليمي، لتعيش في ظل أنظمة تضمن لها، ولأجيالها المقبلة، الحرية والعدالة والكرامة.

يساهم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط في تعزيز الاستقرار في الغرب والشرق؛ ودعم الأنظمة الديمقراطية التي تعاني اليوم من جملة مشكلاتٍ وجوديةٍ، تتمثل في مخاطر الإرهاب، والتشدّد، والعنصرية، والجريمة، والشعبوية بأشكالها المختلفة. وحتى تكتسب الدعوات المطالبة بحل مشكلات الشعوب (مثل الدعوة إلى حل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين) المصداقية، كي لا تغدو مجرّد شعارات للتضليل والتعمية، كشعارات النظام الإيراني وحزب الله؛ لا بد من العمل الجاد المضني المخلص للوصول إلى هذا الحل، والضغط على الحكومة الإسرائيلية، باعتبارها صاحبة السلطة والقدرة راهناً في هذا المجال، من أجل دفعها نحو القبول بهذا الحل، والعمل عن الالتزام به، وتنفيذه.

وبالعودة إلى ما بدأ به المقال، لفهم ما يجري، لا بد من وضع الجزئيات ضمن سياق اللوحة العامة؛ وعدم التوقف عند التفصيلات والاكتفاء بها، كما يفعل جمهور كرة القدم؛ وعدم استخدام النتائج الرغبوية المتسرّعة؛ فذلك كله سيربك شعوب منطقتنا المغلوبة على أمرها، ويزيد من مستوى التيه الشامل الذي تعاني منه أصلاً.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى