منذ انتصار الثورة الإيرانية، والسلطة الجديدة فيها تبني نفوذها الإقليمي من خلال بناء أذرع لها في بلدان المنطقة، ولم تمنعها الحرب الايرانية ـ العراقية من التوقف عن فعل ذلك، بل ربما كانت دافعاً إضافياً إلى إيجاد هذا الامتداد الإقليمي في المنطقة، من خلال بناء هذه الامتدادات المرتبطة مباشرة بإيران، وكان حزب الله اللبناني جوهرة التاج في معمار أذرع النفوذ الإقليمي في المنطقة. وليس سرّاً أن الحرس الثوري الايراني هو الذي أسّس الحزب في 1982، حيث أرادت إيران وجود نفوذ مباشر لها في الطائفة الشيعية في لبنان، وفي الصراع هناك. وبوجود قوات فرنسية وأميركية جاءت بعد حرب ذلك العام، وخروج قوات منظمة التحرير من بيروت بعد حصار وقصف عنيف ثلاثة أشهر. كانت الفرصة الإيرانية لاستهداف هذه القوات، فكانت عمليات الحزب الأولى في استهداف هذه القوات بتفجيرات ضخمة، أوقعت مئات القتلى بينهم، ما جعلها تنسحب من لبنان. وقد ساعد التحالف السوري ـ الإيراني في تأسيس الحزب، إذ اصطفّ النظام السوري في زمن الرئيس حافظ الأسد مع إيران في حربها الطويلة مع العراق ثماني سنوات، وهذا ما جعل دمشق القاعدة الخلفية لإيران، والتي شكلت الجسر الجوي لكل السلاح الذي وصل إلى حزب الله على مدار العقود المنصرمة منذ تأسيسه. ومن دون التحالف السوري ـ الإيراني، ما كان تأسيس حزب الله ممكناً، وحصوله على كل القوة العسكرية التي حصل عليها في السنوات اللاحقة لتأسيسه.
مع الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وإطاحة نظام صدّام حسين، على خلفية الاتهامات الكاذبة عن علاقة مع تنظيم القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، وأنه يملك أسلحة محرّمة، كانت الفرصة الإيرانية للتمدّد في البلد الذي حاربه ثماني سنوات. لم يمنع الوجود الأميركي المباشر في العراق بعد الاحتلال من التمدّد الإيراني عبر النخبة الشيعية التي احتضنتها إيران في فترة معارضتها نظام صدّام، وجزء كبير من هذه النخبة التي تحكم العراق منذ الاحتلال الأميركي حصلت على هذه الرعاية. ولم تكتفِ إيران بالتأثير السياسي، بل عملت على تشكيل مليشيات مسلحة مرتبطة بها مباشرة، وأصبح النفوذ الإيراني في العراق النفوذ الأكبر، وكأن الولايات المتحدة أطاحت النظام العراقي لمصلحة إيران.
انتظرت إسرائيل حتى انتهت من المهام التي تريدها في قطاع غزّة، لتبدأ حربها بضرباتٍ قاسية على حزب الله
وتحولت في سورية العلاقة بين الطرفين، من علاقة تحالف كما كانت قائمة في زمن الأسد الأب، إلى محمية إيرانية في زمن الأسد الابن، ومن ثم محمية إيرانية ـ روسية. كان الأسد الأب يمسك البلد بقبضة قمعية أمنية هائلة، أخضعت البلد بالحديد والنار، خاصة بعد مذابح مدينة حماة في فبراير/ شباط من العام 1982. أخذت هذه القبضة بالتحطّم مع وصول ثورات الربيع العربي إلى دمشق، وتبيّن أن هذا النظام، المتغوّل عبر شبكته الأمنية، أضعف من أن يحمي نفسه من ثورة السوريين التي انفجرت في وجهه. فكان الدخول الإيراني على الصراع في سورية قد جعل النظام نفسه رهينة إيران، ولم تعد العلاقة بين الطرفين علاقة تحالف، بقدر ما أصبحت علاقة تبعية، فلم يعُد التأثير الإيراني عبر النصائح، بل أصبح النظام يدار إيرانياً، وأصبحت هناك قوات إيرانية، ومليشيات عراقية وغير عراقية تقاتل في المدن السورية، وترتكب الجرائم بحق السوريين. ولم يكن حزب الله خارج هذه المعادلة، فقد دخل الأراضي السورية لقتال السوريين، بدأ من القصير في حمص التي قتل أهلها وهجّرهم بذريعة أنهم إرهابيون، ومن ثم في باقي المدن السورية.
بتحوّل النظام السوري من حليف إلى تابع، اكتملت دائرة الثقل الإيراني الحاسم في ثلاثة بلدان، العراق وسورية ولبنان، تصل بينها وبين البحر المتوسط، وهو نفود لم تكن إيران لتحلم به. وقد عملت إيران على أن تكون مقرّراً في الوضع الفلسطيني أيضاً، عبر إقامة تنظيم مرتبط بها بالكامل، مثل تنظيم الجهاد الإسلامي، أو عبر تأثير كبير على حركة حماس. مع مفارقة في الوضع الفلسطيني، أن التمدّد الإيراني في البلدان الأخرى قام عبر الطوائف الشيعية في هذه البلدان، أو بإرسال قوات ومليشيا عناصرها من هذه الطائفة كما هو الحال في سورية.
كما كانت اليمن عبر الحوثيين قصة نجاح نفوذ إيراني على البحر الأحمر وعلى باب المندب، ما جعلها تسيطر على التجارة العابرة لقناة السويس، وهذا ما حدث مع استهداف الحوثيين السفن العابرة للمكان تضامناً مع قطاع غزّة، ما أقلق فعلياً قناة السويس.
بهذا الانتشار لنفوذها، أصبحت إيران صاحب النفوذ الأكبر في المنطقة بعد تراجع نفوذ الدول العربية وانكفائها على ذاتها. وبذلك، أصبحت هناك قوتان إقليميتان في المنطقة، إسرائيل وإيران، والأخيرة تسعى إلى دعم هذا النفوذ، بسلاح نووي، تعتبره إسرائيل تهديداً مباشراً لها، ما يجعل الصراع في المنطقة يبدو وكأنه صراع إيراني ـ إسرائيلي على النفوذ.
أصبحت إيران صاحب النفوذ الأكبر في المنطقة بعد تراجع نفوذ الدول العربية وانكفائها على ذاتها
جاء “طوفان الأقصى” خارج كل الحسابات الإيرانية. وبالتأكيد، جاء ضد تقديراتها، وهذا ما جعله لا يُربك الحسابات الإيرانية فحسب، بل يفرض عليها قلب استراتيجيتها في المنطقة التي عملت عليها خلال العقود المنصرمة. لقد صمّمت إيران نفوذها الإقليمي على أساس إمبراطوري، وهو ما يقوم على أساس، أن أذرع النفوذ التي تتحكم فيها بالبلدان الأخرى، عليها أن تعمل على حماية راعيها، وأن تقاتل معه عندما يتعرّض لهجوم. جاء هجوم مقاتلي حركة حماس في 7 أكتوبر (2023) على البلدات الإسرائيلية في غلاف غزّة، ليفرض معادلة جديدة، ليست واردة في الحسابات الإيرانية، لأن الرد الإسرائيلي الوحشي على الهجوم لم يقدّره من قام بالهجوم، والذي نجح أكثر بكثير مما توقع. هو ما فرض تضامناً ممن تحدّث طويلاً عن “وحدة الساحات”، فكان التضامن الخجول من حزب الله بقواعد اشتباك محدودة. ولكن إسرائيل انتظرت حتى انتهت من المهام التي تريدها في قطاع غزّة، لتبدأ حربها بضرباتٍ قاسية على حزب الله، وصلت إلى اغتيال أمينها العام حسن نصر الله وقتل أغلب قياداته الأولى.
في هذه الدورة من الصراع، وجدت إيران نفسها مضطرّة إلى الرد مرّتين، مباشرة عبر هجمات بالصواريخ البعيدة والطائرات المسيّرة، مع التأكيد المستمر أنها لا تريد الحرب. المشكلة الإيرانية أنها لم ترغب في الوضع القائم، وأنه جاء مناقضاً لتصوّرها عما تريده من أدوات نفوذها في المنطقة، فوجدت نفسها في ورطة الدفاع عنهم، بدل أن يدافعوا عنها.
المصدر: العربي الجديد