نحن الآن في عام 1979. مضى أسبوعان على انتصار الثورة الإسلامية، وياسر عرفات أوّل زوارها. يستقبله الخميني لحظة وصوله بما يشبه الاحتفال. وعرفات يُعلِن أنّ “الثورة الايرانية تسجّل عصراً جديداً وفجراً جديداً”. خلال هذه الزيارة، تقطع إيران علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، تحوّل مقرّ سفارتها إلى سفارة فلسطين في إيران، وتقدّم مفاتيحها الى عرفات. فإيران الآن هي الأمل المُتبقّي، بعدما وقّع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل. طبعاً، سبق ذلك علاقات نسجتها منظّمة التحرير مع المعارضة الإيرانية، دعماً وتدريباً. منها اليسارية، مثل “مجاهدي خلق”، وأخرى دينية خمينية. شاركت حركة أمل في تدريب هذا النوع الأخير من المقاتلين، وكان أحد مؤسّسيها مصطفى شمران، المقرّب من الإمام الإيراني – اللبناني موسى الصدر.
لا تعيش العلاقة بين منظمة التحرير وإيران طويلاً. تدور حولها نقطتا خلاف، أولاها أنّ عرفات يريد أن تبقى القضية فلسطينية وطنيةً على ما كانت عليه منذ تأسيسها. ومع أنّه لم ينجح طوال مسيرته في تجنيب نفسه كأس الإصغاء الى “حلفائه”، غير أنّ عرفات يتمسّك بدرجة عالية من استقلالية قراره، بصفته رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. يريد إذاً أن تكون قضيته فلسطينية، فيما الخميني يطمح إلى امتلاكها عبر إعلانها “قضيةً إسلاميةً”. يقول له: “ليس هناك قضية فلسطينية، بل قضية إسلامية”. نقطة خلافية ثانية بين الرجلَين؛ أنّه بعد عام على الثورة الإسلامية، تندلع الحرب بين إيران والعراق. تدوم ثماني سنوات. ومنظّمة التحرير ترفض ما يطلبه منها الخميني، أي تأييدها في القتال. يحاول عرفات، كعادته، أن يزاوج بين رفضه تأييد هذه الحرب وإبقاء صلاتٍ حسنةٍ بإيران.
ولكن إيران تخسر هذه الحرب. وتستخلص الدرس أنّها إذا أرادت الاستمرار بـ”تصدير ثورتها”، وتحت شعارات تحرّك قلوب منطقتنا العليلة بفراغها السياسي، فما عليها إلّا مهمَّة واحدة: بناء أولى أذرعتها الضاربة في أضعف الكيانات العربية، لبنان، القُطر الذي يحمل وعوداً كبيرةً في باطنه وفي سطحه. لبنان المحاذي لإسرائيل، الخارج لتوّه من غزو إسرائيلي واحتلال، المُفكَّك، المُنقسم على نفسه طائفياً دائماً وأبداً، فتشغّل إيران ماكينة تصدير ثورتها فيه، أي تصديرها للحرب إلى خارج أراضيها، تعويضاً عن هزيمتها في حربها ضدّ العراق، أو ربّما لحاجة فطرية جينية عند إيران بإدامة ثورتها عبر إدامة الحروب، لكن هذه المرّة، حروب “رابحة” خارج أراضيها، كلفتها بسيطة؛ الوصاية والمال. فكان لبنان المحتلّ عام 1982، ورحيل عرفات من لبنان، وبداية تكوين مجموعة حزب الله، والموروث اليساري جاهز: العداء للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وطبعاً فقدان دول “الصمود والتصدي”، من العراق وسورية وليبيا، مصداقيتها القتالية ضدّ إسرائيل.
بنى حزب الله شرعيّته وسلطته ودويلته، وحطّم الدولة اللبنانية على أساس أنّه “مقاومة“
هكذا، يبنى حزب الله شرعيته وسلطته ودويلته، ويحطّم الدولة اللبنانية على أساس أنّه “مقاومة”، وأنّه يصبو إلى بلوغ القدس وفلسطين. في البداية، كان إعلان تلك العلاقة الحميمة بين إيران وحزب الله مدعاةً لنوع من التكتّم، وبعدما تمكّن حزب الله من البلاد والعِباد، صار يعلن جهاراً علاقة التبعية المطلقة القائمة بينه وبين السلطة الإيرانية. والعالم غير مصدِّق أنّ إيران تكتفي بالنصر الذي أحرزه الحزب عام 2000، بطرده الاحتلال الإسرائيلي من لبنان. تريد الاستمرار في الحرب مع إسرائيل، تختار مواعيدها عندما تحتاج تحسين شروطها مع الغرب، فتورّط لبنان بأكمله في حروب كبيرة وصغيرة، ويدفع ثمنها لبنان من دون كلل. سنوات من الحروب، بمحطّاتها الكُبرى والصغرى، بلغتها وعنفها ومناخها واستنفاراتها الدائمة، حتّى بلغنا اليوم نقطةَ الحقيقة العارية بالحرب الدائرة في هذه اللحظة بين إيران وإسرائيل، وليس فيها شيء من حقوق فلسطينية، أو أهل غزّة، ولا لبنان، فقط سيادة إيران في أراضيها، بدعم من حزب الله الذي ينزف، ومعه لبنان كلّه.
صور هذه الحرب وكلماتها لا تنبض، معظمها لا يكاد يُرى منها غير الدعم الأميركي لإسرائيل في حربها مع إيران، كأنّه يكشف المستور، فيما الدعم الأميركي لإسرائيل صار أيقونةً، قال بها آباؤنا وأجدادنا قبلنا وردّدوها بلا ملَل. كأن إعطاء الأولوية لهذا الاستنكار هو للتغطية على تقاعس إيران عن حماية حزب الله في هذه الحرب، وقبله غزّة. ولكن. هل حاول بعضهم المقارنة بين الحلف الأميركي الإسرائيلي، والذي لا يُسمى حلفاً، بل تبعية معلنة، بين إيران وحزب الله؟ … من زمن يبدو الآن بعيداً، كانت إيران تطلق التصريح تلو الآخر، منتشيةً بنفسها من سيطرتها على شعوب العراق وسورية واليمن ولبنان، وفي المديح هذا، يحظى حزب الله بالموقع الأول بصفته الأنجح من المليشيات الأخرى التي أسّستها إيران في تلك الدول. علاقة ليست تحالفية ولا ائتلافية ولا جبهوية. إنّها علاقة تبعية مُعلَنة، يعتزّ بها حزب الله ويزيد على “عمرها” وأقدميتها. أربعون عاماً من التبعية المطلقة، لم يهزّها انشقاق ولا خروج وجوه وازنة.
علاقة حزب الله بإيران تبعية مُعلَنة، يعتزّ بها ويزيد على “عمرها” وأقدميتها. أربعون عاماً من التبعية المطلقة
ليست العلاقة بين إسرائيل والولايات المتّحدة كذلك. هي مبنية على يهود أميركا، قديمة، تعود إلى أكثر من قرن وربع قرن، منسوجة بمأساة يهود أوروبا الشرقية و”بوغروماتها” (مذابحها) قبل النازية. تغذّيها المنظّمات والمدارس والكنس اليهودية، وتدخل في أعماق الدولة الأميركية العميقة. وبعد نشأة إسرائيل، صارت أميركا حامية حماها، هزّتها قليلاً الإبادة في غزّة، وطرحت عليها تساؤلات تاريخية، ولكنّها بدت وكأنّها تشجّع بنيامين نتنياهو على المضيّ في حربه مع إيران، وخائفة في الآن عينه أن يتجاوز نتنياهو خطوطاً ما، فيعرّض مصالحها للخطر. وإسرائيل حليفة أميركا لا تطيعها تماماً، ولا ترضى بأقلّ من تغذية ثكناتها بالذخائر والأسلحة، ومن دعمها الاستخباراتي والعسكري. ثمّة هامش تلعب به، مثل أيّ حليف قوي، تخرق هنا، تعبث هناك، تتجاوز المحاذير الأميركية، خلافاً لحزب الله الذي يحتاج إلى قرارات إيرانية لكي يطلق صواريخه الباليستية على إسرائيل دفاعاً عن أرض لبنان. ولا قرار بشأنه، إنّ صدّقنا التفسير، وإلا فسيكون حزب الله قد أغرقنا بمزيد من الأوهام، بتصويره اختباء هذه الصواريخ في أنفاقه.
لاحظ كثيرون أنّ تضامن الرأي العام الغربي مع لبنان في محنته هذه كان شبه غائب مقارنةً بما اندلع من حركات طلابية وشعبية تضامنية مع غزّة وفلسطين. لماذا هذا الغياب مقارنةً بذاك الحضور؟ … أحالت كاتبة هذه السطور السؤال على أصدقاء غربيين كانوا يشاركون في تظاهرات تأييد غزّة، ويتابعون أوضاعنا إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ لماذا لا تتضامنون مع لبنان كما فعلتم مع غزّة؟ … وإليكم الإجابات بلغة تلغرافية: “عذاب الفلسطينيين قديم ومثبّت وحقوقهم واضحة. فيما اللبنانيون عن ماذا يدافعون؟ عن النظام الإيراني الاستبدادي، المعادي لمواطنيه من رجال ونساء؟ وما فعله منذ عامين بعد انتفاضة “المرأة، الحرية، الحياة”، ليس فيه حقوق إنسان أو عيش كريم؟”… “نظام بشع يرسل مليشياته إلى سورية دفاعاً عن نظام أبشع منه. وذراعه حزب الله الذي يقول إنّه يخوض الآن حرب الدفاع عن جنوب لبنان، كان في طليعة هذه المليشيات. فكيف ندافع عنه؟”… و”إيران هذه لم تنتفض إلا عندما خُرِقت سيادتها الوطنية بصراحة. اغتيال إسماعيل هنيّة، ومن بعده رجلها الأول حسن نصر الله، وقبلهما القنصلية الإيرانية في دمشق. قبل ذلك، ما حلّ بغزة، بلبنان… ماذا فعلت؟”. تفسير أخير، ينطوي على قدر عال من البراءة. براءة المغالين في عقلانيتهم.
المصدر: العربي الجديد