بعد عام من الحرب، ثمة احتمال حقيقي لعدم وجود “يوم تالٍ” أفضل في غزة أو في بقية المنطقة. والحديث في واشنطن عن الاستفادة من وفاة نصر الله وضعف إيران في “إعادة تشكيل” الشرق الأوسط يعود إلى المعتقدات المضللة نفسها التي كانت الدافع وراء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 الذي خلف آثارًا كارثية. إن استمرار الصراع العسكري يضر بالمنطقة، ويضر بالمصالح الأميركية. ومن دون تغيير في الحكومة الإسرائيلية الحالية، يمكن أن تتحرك إسرائيل وجيرانها نحو يوم مختلف تمامًا.
* * *
أشّر اغتيال إسرائيل الأسبوع الماضي لزعيم “حزب الله”، حسن نصر الله، على لحظة تحول في الشرق الأوسط. في عهد نصر الله، أصبح “حزب الله” أقرب حليف لإيران وقوة ردع حاسمة، والركيزة الأساسية لـ”محور المقاومة” في طهران. وكان موته ضربة قاسية وصادمة -ليس لـ”حزب الله” فقط، ولكن لتحالف القوى المدعومة من إيران في جميع أنحاء المنطقة أيضًا. بالنسبة لإسرائيل، كان القتل تصعيداً منطقياً، ولو أنه جريء، على سُلم التصعيد. وفي الأسبوع الماضي، اتخذت إسرائيل الخطوة التالية -بدء غزو بري للبنان أطلق العنان لهجوم واسع النطاق على “حزب الله”- كل هذا بينما تواجه انتقامًا مباشرًا جديدًا من إيران، مع إطلاق ما يقرب من 200 صاروخ باليستي على إسرائيل قبل أيام.
منذ الهجوم القاسي الذي شنته “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) قبل عام تقريبًا، أظهرت إسرائيل باستمرار استعدادًا لتحمل قدر أكبر من المخاطر في حربها ضد داعمي “حماس” الإقليميين، بمن فيهم إيران و”حزب الله”. وخلال العام الماضي، استهدفت إسرائيل قادة في كل من “حزب الله” و”الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني، مما أسفر عن القتل المنهجي لمئات من كبار الناشطين. وأدى ذلك إلى إضعاف مطرد لموقف “حزب الله” وإيران، ما يعني أنه على الرغم من أن كليهما سيحافظان على خوض صراع منخفض المستوى، فإن أياً منهما لا يريد حربًا واسعة النطاق مع إسرائيل. وشجعت الديناميات المحلية العمليات الإسرائيلية أيضًا. فقد أصبح العديد من الإسرائيليين يشعرون بأن عودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) لن تكون مقبولة. وكان أحد الدروس الرئيسية المستخلصة من الهجمات هو أن إسرائيل لم تعد قادرة على تحمل مجرد إدارة واحتواء التهديدات على حدودها. سوف تحتاج إلى تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة -بغض النظر عن التكاليف.
وهكذا أصبح القادة الإسرائيليون متحمسين للغاية ولديهم حافز كبير لاستعادة الردع المحطم للبلاد وهالة المناعة التي اخترقها هجوم “حماس”. وبسبب عجزها عن إلحاق الهزيمة النهائية بـ”حماس” في غزة، قد ترى إسرائيل المزيد من الفرص في القتال ضد “حزب الله” وإيران. وقد أمضى جيشها سنوات في التحضير للقتال على الجبهة الشمالية. وكما أظهرت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في إيران ولبنان، فإن أجهزة استخباراتها اخترقت على نطاق واسع شبكات كل من إيران و”حزب الله”.
في البيئة التصعيدية الحالية، من غير المرجح أن تنجح الجهود الأميركية والدولية لتشجيع التوصل إلى تسوية دبلوماسية للحرب في لبنان أو غزة، حتى في الوقت الذي أصبحت فيه الدعوات إلى وقف إطلاق النار أكثر إلحاحًا في مواجهة المواجهة المباشرة الجديدة بين إسرائيل وإيران. لكنّ إسرائيل لا تسعى في الوقت الراهن إلى الخروج بسلوك الطريق الدبلوماسي؛ إنها تبحث عن النصر الكامل. تضاف إلى الحسابات الاستراتيجية اعتبارات سياسية تربط البقاء السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، باستمرار الحروب التي يبدو أنها تعزز شعبيته واستقرار تحالفه الحاكم.
كان نصر الله عدوا مميتًا، وابتهج الإسرائيليون -وكثيرون غيرهم في المنطقة- بوفاته. ويؤيد العديد من الإسرائيليين التصدي لـ”حزب الله” وإضعافه في لبنان. وحتى قادة المعارضة يفضلون العمليات البرية الإسرائيلية الجارية حالياً. ولكن بمجرد أن تتلاشى حالة النشوة -وهو ما قد يحدث بسرعة أكبر مما كان متوقعًا، حيث أجبرت هجمات إيران و”حزب الله” رداً على مقتل نصر الله الإسرائيليين في جميع أنحاء البلاد على الإقامة في الملاجئ- فإنهم قد يبدأون في سؤال قادتهم عما يعنيه النصر حقاً. إذا كان النصر تصعيدًا ونجاحات عسكرية تكتيكية ضد “حزب الله” وإيران، فإن إسرائيل نجحت في ذلك مُسبقًا. لكن هذا انتصار سريع الزوال. وهو يأتي بتكاليف وينطوي على نتائج لا يمكن التنبؤ بها، ويبدو منفصلاً عن أي زخم جدي نحو السلام مع الفلسطينيين -أخطر تحد وجودي لإسرائيل.
بعد عام من الحرب، ثمة احتمال حقيقي لعدم وجود “يوم تالٍ” أفضل في غزة أو في بقية المنطقة. والحديث في واشنطن عن الاستفادة من وفاة نصر الله وضعف إيران في “إعادة تشكيل” الشرق الأوسط يعود إلى المعتقدات المضللة نفسها التي كانت الدافع وراء الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 الذي خلف آثارًا كارثية. إن استمرار الصراع العسكري يضر بالمنطقة، ويضر بالمصالح الأميركية. ومن دون تغيير في الحكومة الإسرائيلية الحالية، يمكن أن تتحرك إسرائيل وجيرانها نحو يوم مختلف تمامًا بعد ذلك: إعادة الاحتلال الإسرائيلي لغزة -وربما حتى لجنوب لبنان- فضلاً عن تعزيز السيطرة على الضفة الغربية، إن لم يكن ضمها. وليست هذه وصفة للنصر، وإنما للحرب الدائمة.
الحرب كانت قيد التكوين
كانت المخاطر من أن حرب غزة يمكن أن تشعل صراعاً إقليمياً أوسع، بما في ذلك مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران، واضحة منذ البداية. سرعان ما دخل “حزب الله” المعركة، على الرغم من أنه ربما لم يفعل بالقدر الذي كانت تريده “حماس”. في عرض للتضامن، بدأ “حزب الله” في شن هجمات عبر الحدود على شمال إسرائيل في الأسبوع الأول من الحرب، وردت إسرائيل بهجمات مضادة اتسع نطاقها باطراد. وأدى تصاعد العنف إلى تشريد عشرات الآلاف من المدنيين الإسرائيليين واللبنانيين على جانبي الحدود.
تشبث الكثيرون بوهم أن الصراع على الجبهة الشمالية يمكن احتواؤه لأنه لا يوجد طرف يريد حربًا واسعة النطاق. قصر “حزب الله” هجماته إلى حد كبير على أهداف قريبة من الحدود، كانت ضمن قواعد الاشتباك المقبولة التي وضعها الحزب مع إسرائيل بعد حربهما الأخيرة في العام 2006. ولكن مع استمرار القتال في غزة، تجاوزت كل من إسرائيل و”حزب الله” الخطوط الحمراء بهجمات وصلت إلى عمق الأراضي الإسرائيلية واللبنانية وعرَّضت المدنيين للخطر. وارتفع عدد الضحايا، لكنه بقي عند مستوى أوحى بأن الصراع ما يزال من الممكن احتواؤه.
مع ذلك، كان خطر اندلاع حرب واسعة النطاق ماثلاً دائمًا بإحدى طريقتين. الأولى هو احتمال حدوث سوء التقدير -أن يؤدي هجوم يشنه أحد الطرفين إلى إيقاع خسائر غير متوقعة ويجبر الطرف الآخر على الانخراط في حرب غير مرغوب فيها. وكان هذا الخطر واضحًا مع الهجوم الإسرائيلي في أوائل نيسان (أبريل) على منشأة دبلوماسية إيرانية في دمشق أسفر عن مقتل بعض من كبار القادة الإيرانيين. وقد اعترفت إسرائيل بأنها أخطأت في حساباتها، معتقدة أن الهجوم لن يثير رداً إيرانياً. لكنه استفز إيران إلى الرد. وشنت إيران أول هجوم صاروخي مباشر لها على إسرائيل. وتمكن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من صد الضربة واحتوائها بسرعة، لكن الحادثة أظهرت كيف يمكن أن يتسبب سوء التقدير بالتصعيد بسرعة، كما أنها مهدت الطريق للصراع العسكري الإيراني الإسرائيلي الذي يتكرر اليوم.
كان المسار المحتمل الآخر نحو اندلاع حرب واسعة النطاق هو حدوث تغيير في الحسابات الاستراتيجية -أن ترى إحدى القوى المعنية قيمةً في خوض حرب أكبر من تجنبها. وكانت هذه هي العقلية التي دفعت إسرائيل إلى تصعيد هجومها على “حزب الله” في لبنان. وعلى الرغم من أنه بدا أن إيران و”حزب الله” يعتقدان أن صراعًا منخفض المستوى مع إسرائيل يمكن التحكم فيه طالما كانت إسرائيل منشغلة بغزة، كانت حسابات إسرائيل قد تغيرت بالفعل مع تحوُّل انتباهها بشكل متزايد نحو الشمال خلال الصيف.
عندما يأتي الأمر إلى الشمال، ثمة إجماع في مؤسسة الدفاع الإسرائيلية وعبر أطيافها السياسية أكثر بكثير مما يتوفر في النقاش حول كيفية التعامل مع غزة والرهائن المتبقين. بعد هجمات “حماس”، لم يعد الاعتماد على الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية لحماية البلاد من ترسانة “حزب الله” الضخمة كافيًا، ولن يكون كافيًا للسماح للإسرائيليين النازحين بالعودة إلى ديارهم في الشمال. ولم تستطع إسرائيل تحمل وجود “حزب الله” نشطًا على حدودها، ورفضت فكرة أن الصفقات الدبلوماسية التي اقترحها الأميركيون أو الفرنسيون ستردع وحدها الهجمات المستقبلية وتجبر “حزب الله” على التراجع بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك، قدرت إسرائيل أن “حزب الله” -وإيران من خلفه، بالتأكيد- كان مترددًا في الذهاب بعيدًا في صراعه العسكري مع إسرائيل. وهكذا، حسبت إسرائيل أنها يمكن أن تستفيد من نصب كمين لكلا الخصمين من دون مواجهة انتقام كبير، وهو تقييم يبدو الآن أنه كان مفرطًا في الطموح. كما لم تتوقع إسرائيل مواجهة الكثير من المقاومة من حلفائها، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة فرضت قيوداً قليلة، إن وجدت من الأساس، على النشاط العسكري الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). ويبدو أن هذا التوقع قد صمد: فقد واصلت الولايات المتحدة دعمها العسكري الكامل لإسرائيل في الوقت الذي توسع فيه حملتها إلى لبنان وتواجه هجمات جديدة من إيران.
قبل الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير، أشارت إسرائيل إلى أنها تخطط لتنفيذ عملية عسكرية محدودة فقط في لبنان وليس احتلال جنوب لبنان مرة أخرى. ولكن لا توجد أي ضمانات بأن الحرب ستبقى محدودة أو قصيرة، استنادًا إلى تاريخ الحروب بين البلدين وبالنظر إلى المقاومة المحتملة التي ستواجهها إسرائيل من “حزب الله”، حتى في حالته المتضائلة، الآن بعد أن شرعت في غزو الأراضي اللبنانية. ومع وجود المواجهة الإيرانية الإسرائيلية المباشرة كخلفية، يمكن أن تشتد جبهة الحرب اللبنانية أكثر.
ربما لم تكن إسرائيل تقصد تفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة الاتصال اللاسلكي التي وزعها “حزب الله” على أعضائه في منتصف أيلول (سبتمبر) كأول ضربة في حرب ثانية. ولكن، بطريقة أو بأخرى، كانت إسرائيل مصممة على تغيير المعادلة مع “حزب الله”. والسؤال الآن هو: ما الشوط إلى الذي تخطط إسرائيل لقطعه. إذا كانت غزة لتشكل دلالة، فإن لبنان وشعبه قد يواجهان أسابيع شاقة في المستقبل. وقد نزح مليون لبناني مسبقًا في بلد يزيد عدد سكانه قليلاً عن خمسة ملايين نسمة.
الهدف التالي؟
واجهت إيران معضلة في كيفية الرد على مقتل نصر الله وضرب إسرائيل لـ”حزب الله”. ويشير قرارها بتأجيل الرد الفوري على مقتل الزعيم السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران في أواخر تموز (يوليو)، إلى درجة من الحذر والاهتمام المستمر بتجنب نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقًا. وعلى الرغم من كل عدائهم لإسرائيل، يقدر القادة الإيرانيون بقاءهم قبل كل شيء ويفهمون أن حربًا مباشرة مع إسرائيل -حرب يمكن أن تشمل الولايات المتحدة- قد تهدد هذا البقاء. وقد انخرطت إيران وإسرائيل لأكثر من عقد من الزمان في ما تسمى بـ”حرب الظل” التي تميزت بالاغتيالات والتخريب والهجمات الإسرائيلية المتعددة على البنية التحتية النووية والعسكرية الإيرانية. وكانت المرة الوحيدة التي هاجمت فيها إيران إسرائيل علنًا وبشكل مباشر قد حدثت في نيسان (أبريل) الماضي، في ما تبين أنه كان محاولة فاشلة لاستعادة الردع الإيراني مع توسع الحرب في غزة.
لكن الهجمات الإسرائيلية القوية خلال الشهرين الماضيين، من قتل هنية إلى هجمات أجهزة النداء في لبنان واغتيال نصر الله، زادت من الضغط داخل إيران للرد بقوة أكبر لإصلاح صورتها بين شركائها في المحور وإنهاء سلسلة انتصارات إسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية، التي تضمنت ضربات إسرائيلية ضد الحوثيين في اليمن. وربما قدّر قادة طهران أيضًا أن إسرائيل، بغض النظر عن طريقة ردهم، مستعدة لمهاجمة إيران مباشرة، بتشجيع من حالة “حزب الله” الذي تم إضعافه، والذي كان الرادع الإيراني الأكثر فتكًا ضد إسرائيل. في الواقع، أصدر نتنياهو بيانًا مصورًا موجهًا إلى الشعب الإيراني (باللغة الإنجليزية) في 30 أيلول (سبتمبر)، قال فيه بشكل قاطع: “لا يوجد مكان في الشرق الأوسط لا يمكن لإسرائيل الوصول إليه”.
نتيجة لذلك، على الرغم من المخاطر وبعد نقاش داخلي كبير ومهم بلا شك، أوفت طهران بتعهدها بالرد، وأطلقت صواريخها على إسرائيل للمرة الثانية في 1 تشرين الأول (أكتوبر). وأعطت إخطارًا قبل الهجوم بفترة أقل من تلك التي أعطتها في هجوم نيسان (أبريل). وشملت أهدافها هذه المرة منشآت عسكرية في مناطق مكتظة بالسكان في إسرائيل. وكما كان الحال من قبل، نجح نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي -بمساعدة عسكرية أميركية- في صد الهجوم، مما حد من الأضرار وضمن عدم وقوع إصابات بين الإسرائيليين. وأعلن نتنياهو أن إيران “ستدفع” ثمن الهجوم، ووعد مسؤولون أميركيون بعواقب وخيمة على إيران. وبالنظر إلى الطبيعة المباشرة للضربة الإيرانية وتوسيع قائمة الأهداف الإسرائيلية، فإن الانتقام الإسرائيلي شبه مؤكد. لكنّ ما هو أقل تأكيدًا هو ما إذا كانت هذه الجولة الجديدة من المواجهة الإيرانية الإسرائيلية المباشرة ستنتهي بالسرعة التي انتهى بها تبادل الضربات في نيسان (أبريل).
مع تدهور حالة محور وكيل إيران، قد تقرر إسرائيل اغتنام الفرصة لضرب المنشآت النووية الإيرانية أو زيادة استهداف قادة الحرس الثوري الإيراني، أو حتى القادة السياسيين الإيرانيين. وهناك أيضًا أسباب منطقية تجعل إسرائيل تقصر ردها على ضربة أخرى محسوبة موجهة ضد إيران، كما فعلت في نيسان (أبريل)، مما يسمح للجانبين بإعلان النصر والتراجع عن حافة الهاوية. ومن المرجح أن تكون مقاومة الولايات المتحدة لتوسيع الحرب كبيرة أيضًا. وقد هددت قوات الميليشيات المتحالفة مع إيران في العراق بالفعل باستهداف الأفراد الأميركيين إذا تدخلت الولايات المتحدة، ومن المؤكد أن إدارة بايدن لا تسعى إلى حرب مباشرة مع إيران. وقد تفضل إسرائيل على أي حال العودة إلى تكتيكات حرب الظل، مستفيدة من الضعف الذي أصاب حالة إيران. ومع ذلك، فإن المناخ التصعيدي الحالي ونتائج الحرب التي لا يمكن التنبؤ بها في كثير من الأحيان تعني أنه لا يمكن استبعاد أي شيء.
في الحقيقة، يتكهن بعض المحللين بأن إيران يمكن أن ترد على تدهور شبكة تحالفها وتعوض عن ضعفها العسكري التقليدي من خلال التحرك نحو تسليح برنامجها النووي. لكنَّ من المرجح أن يتم الكشف عن مثل هذه الخطوة الجذرية، ولن تؤدي سوى إلى زيادة خطر وقوع هجمات إسرائيلية أكثر حدة وشمولاً على البلاد.
يوم تالٍ يزداد قتامة
كانت إسرائيل على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى لإضعاف “حزب الله” وإيران، وقد خطت بالفعل خطوات كبيرة على تلك الجبهات. لكن الحرب في غزة وزيادة العسكرة في الضفة الغربية تثيران تساؤلاً حول المدى الذي تستعد إسرائيل للذهاب إليه في الأراضي الفلسطينية. ويشير العام الماضي إلى أن حكومة نتنياهو لا تهدف إلى ما يقل عن خلق واقع جديد على جميع حدود إسرائيل.
كان صانعو السياسات والمحللون عاكفين على التخطيط لـ”اليوم التالي” منذ بدء الحرب. وأعربوا عن أملهم في أن تنبثق الفرصة من المأساة. قد تساعد الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الإسرائيليين والفلسطينيين أخيرًا على التوصل إلى تفاهم وإعادة بناء الضفة الغربية وغزة بعد سنوات من الإهمال. ويمكن أن تكون فداحة المعاناة والخسارة تذكرة قاسية -لكنها فعالة- بأنه لا يمكن تجاهل هذا الصراع، وأنه سيعيث فسادًا -ليس فقط في أحوال الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن أيضًا في جميع أنحاء المنطقة بأسرها، وبطرق من شأنها أن تمس كل ركن من أركان العالم. وقد أعرب الساسة والمحللون عن أملهم في أن يثبت الوضع الناشئ أن النتيجة الوحيدة المقبولة هي إيجاد حل سياسي قابل للتطبيق يمكن أن يكسر دورات العنف التي لا نهاية لها.
من المفجع، وإن لم يكن غير متوقع، أن رؤية يوم تالٍ سلمي ومزدهر تبتعد الآن أكثر من أي وقت مضى. وبدلاً من ذلك، فإن الصورة هي استمرار القتال، وارتفاع عدد القتلى، والدمار المادي الكارثي، والنزوح الجماعي، والظروف الإنسانية القاسية. وفي الوقت نفسه، ما يزال الرهائن الإسرائيليون المتبقون الذين لم تقتلهم “حماس” يقبعون في الأنفاق تحت غزة.
وراء هذه الأحداث الكارثية الحالية تكمن نتيجة أطول أجلًا لم تكن حتمية بأي حال من الأحوال. يمكن للخيارات التي يتخذها نتنياهو وائتلافه الحاكم المتطرف الآن أن تنقض عقودًا من الجهود التي بذلها رؤساء الوزراء الإسرائيليون السابقون، إسحاق رابين وإيهود باراك وأرييل شارون، لفك ارتباط إسرائيل بالأراضي الفلسطينية. في غزة، ما تزال القوات الإسرائيلية راسخة بعمق، وتحافظ على سيطرتها في ممر فيلادلفيا على الحدود مع مصر وتستعد لوجود عسكري طويل الأمد. وفي الضفة الغربية، يستمر التوسع الاستيطاني الإسرائيلي الذي تحميه قوات الدفاع الإسرائيلية ويشجعه وزراء إسرائيليون يطمحون إلى السيطرة على كامل الأراضي الفلسطينية. وقد ازدادت في الأشهر الأخيرة غارات جيش الدفاع الإسرائيلي على المدن الفلسطينية، مثل الغارات واسعة النطاق التي يشنها في جنين وطولكرم، بينما تضعف سيطرة السلطة الفلسطينية. وقد بدأ تحرك بري إسرائيلي إلى لبنان، ويناقش القادة والمحللون الإسرائيليون إمكانية إعادة إنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان، على غرار تلك التي أنشأتها إسرائيل بعد غزوها للبنان في العام 1982 واستمرت حتى انسحاب إسرائيل من جانب واحد في العام 2000.
إذا استمرت هذه العمليات، فقد ينتهي الأمر بإسرائيل، عن قصد أو كأمر واقع، إلى إعادة احتلال أجزاء من -أو كل غزة، والضفة الغربية، بل وحتى جنوب لبنان. وغني عن القول إن هذا سيكون يومًا أكثر قتامة بكثير مما تصور الكثيرون. لكنه احتمال حقيقي ينطوي على تداعيات وخيمة محتملة. من شأن إعادة الاحتلال أن تهدد أمن إسرائيل على المدى الطويل، وتسحق تطلعات الفلسطينيين إلى الاستقلال والكرامة، وتزعزع استقرار المنطقة بأسرها.
لحظة قرار مصيري
سوف يؤدي إضعاف إسرائيل لـ”حزب الله” إلى تعميق اعتقاد راسخ مسبقًا بين العديد من القادة الإسرائيليين والشعب الإسرائيلي بأن القوة العسكرية فقط هي التي يمكن أن تجعلهم آمنين. وبعد صدمة 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ومع صعود القادة الدينيين القوميين في إسرائيل، قد يستنتج الإسرائيليون أيضًا أن الاستيلاء على الأراضي هو أفضل طريقة لتأمين بلادهم. ويبدو أن الصيغة التي كانت تقود الدبلوماسية الإسرائيلية منذ معاهدة إسرائيل مع مصر في العام 1979 -الأرض مقابل السلام- قد فقدت مصداقيتها. في ذلك الوقت، وافقت إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء مقابل تطبيع العلاقات الثنائية. ولكن، مع هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي جاء من غزة التي كانت إسرائيل قد احتلتها أيضًا في السابق، بدا أن السيطرة على الأرض تكتسب مرة أخرى قيمة أكبر كاستراتيجية دفاعية. لم تكن الأسوار ذات التقنية العالية كافية لإبعاد الإسرائيليين عن الأذى. ولا شك أن الدفاع الصاروخي والبنية التحتية للدفاع المدني تحد من الضرر الذي يمكن أن يُلحقه خصم، ولكن من دون نقل المعركة إلى العدو وإعادة احتلال الأرض، كما يجادل بعض قادة إسرائيل اليوم، لن تكون إسرائيل آمنة.
يبدو أن مثل هذه النهاية للعبة تصبح أكثر احتمالاً يومًا بعد يوم. لكنها لا يمكن أن تحقق الأمن الذي تسعى إليه إسرائيل على المدى الطويل. بدلاً من ذلك، سوف تترك إسرائيل حبيسة دائرة من الحرب والعزلة العالمية، وسوف تجر الولايات المتحدة معها أيضًا. تحتاج إسرائيل إلى زعيم يعيد النظر في التعريف الحالي للنصر، معترفًا بأن النصر الحقيقي غير ممكن من دون سلام. لا يتعين على المرء أن يكون مؤمنًا بـ”شرق أوسط جديد” حيث تكون إسرائيل مقبولة بالكامل، وتتاجر وتتعامل مع جيرانها، لتقدير أن هناك مساراً مختلفاً وواقعياً للمضي قدمًا. وهذا الطريق ليس طريق الاحتلال الدائم والحرب الدائمة. ولكن في الوقت الراهن، هذا الطريق الأخير هو المسار الذي تسلكه إسرائيل.
*داليا داسا كاي Dalia Dassa Kaye: أكاديمية أميركية وخبيرة بارزة في العلوم السياسية. شغلت منصب مديرة مركز السياسات العامة للشرق الأوسط في مؤسسة راند وشغلت منصب باحثة في مركز ويلسون مع برنامج الشرق الأوسط خلال الفترة 2020-2021. وهي الآن زميلة رفيعة في مركز بوركل للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيلوس.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Where Will Israel’s Multifront War End?: There May Not Be a Better Day After
المصدر: الغد الأردنية/– (فورين أفيرز)