كان من الصعب على طهران أن تمرِّر حادثةَ اغتيال حسن نصر الله (الأسبوع الفائت) من دون ردٍّ، جاء الثلاثاء بصواريخ باليستيةٍ كثيفةٍ اخترقت دفاعات القبّة الحديدية باتجاه العمق الإسرائيلي. كيف لا، بالنظر إلى ما كان يتضلّعُ به نصر الله من دورٍ قيادي لأذرع إيران في المنطقة، خاصّة بعد اغتيال قائد الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني مطلع 2020؟… شخصٌ بوزن نصر الله لا يُعوَّض بالنسبة إلى طهران، فهو ذو خبرة طويلة، وولاؤه مُعلَنٌ لولاية الفقيه، والأكثر أهمّيةً شخصيته الكاريزمية، وتأثير خطاباته في حشد حاضنته الطائفية في لبنان؛ ففي خطاب له في 2016، قال إنّ التمويل والتسليح والرواتب والمصاريف كلّها تأتي من إيران.
من المُبكّر تحديد مصير الحزب، وليس من السهل على الكيان الإسرائيلي إنهاؤه، رغم تفوّقه العسكري بدعم غربي، وتفوقّه الجاسوسي والتكنولوجي الذي يسَّرَ له كشْفَ اتصالات الحزب والبدء بسلسلة اغتيالاتٍ للقيادات استمرت 11 شهراً، وتكثَّفت في مجزرتي “البيجر” و”التوكي ووكي”، ثم تكلَّلت باغتيال نصر الله في الـ28 من الشهر نفسه (28 سبتمبر/ أيلول الماضي) عبر قصفٍ مُكثَّفٍ على الضاحية الجنوبية بطائرة “إف 35” الأميركية. شرعت إسرائيل بعملية توغّل برِّي صعبة، وليست بسهولة الاغتيالات التي قام بها، خاصّةً إذا نجح الحزب في تجميع قوته وحشدِ أنصاره.
في حين قد يتحوّل حزب الله حزباً سياسياً، فإنّ وضع المليشيات في العراق أكثر تعقيداً ومرهونٌ بتفاهماتٍ ضمنيةٍ أميركية إيرانية
مضى شهران على اغتيال إسماعيل هنيّة في قلب طهران من دون أن تردَّ إيران، ولا يبدو أنّها كانت في وارد الرَّدّ بعد إعلان استراتيجيتها صراحةً بلسان رئيسها مسعود بزشكيان (ومساعده محمد جواد ظريف) في نيويورك، الشهر الفائت، حول انعطافتها صوب العمل الدبلوماسي، وتجنّب التصعيد العسكري، وعن “الأخوّة” مع الأميركيين، فيما أصدر مُرشِدُها علي خامنئي اجتهادَ “التراجع التكتيكي”. لكن اغتيال نصر الله وتصفية القيادات في حزب الله كان فجيعةً بالنسبة إلى طهران، استوجبت توجيه ضربةٍ إلى إسرائيل، قالت إنّها ردٌّ على مقتل كلٍّ من نصر الله وهنيّة وقيادي في الحرس الثوري قضى في الضربة نفسها التي قتلت نصرالله.
تفيد المُؤشّرات بأنّ من الصعب على الحزب أيضاً استعادة مكانته في قيادة محور المقاومة ذي الأجندة الإيرانية بعد مصرع أبرز قياداته، وتفكّكه بسبب الفوضى، وفقدانه وسائل الاتصال والشكوك بشأن الخونة، وانكشافه التام على العدو، يضاف إلى ذلك ردُّه المتواضع على الداخل الإسرائيلي، ما يدفع إلى التساؤل حول ما تبقّى من قدرته الصاروخية التي طاولها القصف الإسرائيلي. هذا يدلّل على أن الحزب قد ينكفئ داخلياً على المدى القريب والمتوسّط، ويتحوّل طرفاً سياسياً يمثِّلُ المصالح الإيرانية في لبنان، وبالتالي سيؤثّر في أذرع إيران في سورية واليمن خصوصاً، نظراً إلى دور الحزب في قيادة هذه الأذرع، في حين أنّ وضع المليشيات في العراق أكثر تعقيداً ومرهونٌ بتفاهمات ضمنية أميركية إيرانية.
حققت إيران نفوذاً إقليمياً عبر الاستثمار في وكلائها في أربعة دول عربية منكوبة، هي لبنان والعراق وسورية واليمن، ودفعت الأموال السخية لتعزيز أدلجتها الطائفية إلى أقصى حدّ. ذلك كلّه إلى جانب بناء قوة ردع تمثَّلت في مشروعها النووي، الذي تسعى إسرائيل إلى منعه وتحريض واشنطن على تدميره. الأخيرة معنية بمنع طهران من امتلاك قنبلة نووية، لكنّها ليست بحماسة إسرائيل، وغير مُستعدَّة للانخراط في حروب جديدة في الشرق الأوسط. لم تكن أذرع إيران الممتدّة في المنطقة من ضمن القضايا التي تفاوضت عليها إدارة أوباما مع طهران عند توقيع الاتفاق النووي في 2015. كان دور المليشيات الطائفية يتوافق مع الاستراتيجية الأميركية في تخريب الثورات ومنع انتصارها وتفتيت المنطقة إلى هُويَّات القرون الوسطى، برعاية إيران، وغيرها.
المخطّط الأميركي هو إعادة تشكيل شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل عبر إنجاز عمليات التطبيع العربي المتتابعة مع الكيان الإسرائيلي، وتقليص نفوذ روسيا والصين. أوقفت عملية 7 أكتوبر (2023)، وما تلاها من مجازر الإبادة الجماعية الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين في غزّة طيلة نحو عام، قطارَ التطبيع العربي إلى حين. نقلت تلّ أبيب تركيز عملياتها العسكرية شمالاً، بعد إضعاف حركة حماس وتدمير القطاع، بإعلان بنيامين نتنياهو أنّ هدفه إبعاد خطر حزب الله إلى ما وراء الليطاني وتنفيذ القرار الأممي 1701 (الدّاعي إلى وقفٍ كامل للعمليات القتالية في لبنان، ووضع نهاية للحرب الثانية بين إسرائيل ولبنان التي استمرت 34 يوماً حينها)، وإعادة سكّان الشمال النازحين. لكنّ أهداف هذه الحرب أميركية أيضاً، إذ صار استمرار حزب الله، كما “حماس”، من معوقات عملية التطبيع المنشودة. فواشنطن تموِّل وتسلّح إسرائيل وتدفع باتجاه إنهاء تهديدات حزب الله، واختارت مبعوثها إلى المنطقة عاموس هوكشتاين، الإسرائيلي الذي خدم في جيش الاحتلال، لقيادة جهود وساطة للتسوية بين لبنان وتلّ أبيب، لمصلحة الأخيرة طبعاً، وبالتأكيد، مهمتُه ليست تحقيقَ هدنةٍ في جنوب لبنان، وإن قال غير ذلك.
يستمرّ تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل، إذا ما ردّت الأخيرة، من دون حرب مفتوحة لا ترغب بها واشنطن وليست في مصلحة طهران
يبحث الرئيس الأميركي بايدن عن إنجازٍ يوضع في سجلِّه قبل مغادرة البيت الأبيض، ويرفع من رصيد نائبته كامالا هاريس في صراعها الانتخابي مع دونالد ترامب. وواشنطن تساعد إسرائيل في تصفية حزب الله، وقد حقّقت، منذ إبريل/ نيسان الماضي، شوطاً من التفاوض السرّي غير المباشر مع طهران بخصوص العودة إلى العمل بالاتفاق النووي، الذي سيعني إزالة العقوبات الاقتصادية عن طهران؛ كما أنّ اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، ثمّ اغتيال حسن نصر الله وكبار قادة حزب الله، يُشكّلان رسالةَ بإمكانية أن تغتال إسرائيل (بدعم أميركي) المُرشِدَ نفسه. وإيران معزولةٌ دولياً، تحالفاتها مع روسيا والصين واهية بسبب افتراق المصالح، وبالتالي ليس من مصلحتها التصعيد، وقبل عام، أعلنت عدم ضلوعها في “طوفان الأقصى”، وتركت “حماس” لمصيرها، ومنعت حزب الله من فتح جبهة إسناد حقيقة لحركة حماس، والآن تبدي رغبتها الصريحة في الانتقال إلى العمل الدبلوماسي على حساب تقلّص دور الحرس الثوري. لكنَّها لم تتوقّع أن تكون خسارتها في قيادات حزب الله ومنظومته الصاروخية بحجم فجيعة عليها ابتلاع مرارتها. ردّت عليها بقصف صاروخي على إسرائيل، وقد يستمرّ تبادل الضربات، إذا ما ردّت الأخيرة، من دون الانجرار إلى حرب مفتوحة، لا ترغب بها واشنطن، وليست في مصلحة طهران.
المصدر: العربي الجديد