بعد كل الذي حدث، وبعد كل ما يعدنا العدو التاريخي بفعله، وبعد أن أصابت شظايا غزوة “البيجر”، ثم استباحة لبنان وسقوط نحو خمسمائة شهيد في يوم واحد، كل ما يمكن أن يشكل ضابطا لحرب محدودة، وأطاحت كل قواعد الاشتباك التي قيل لنا إن إسرائيل لن تتخطّاها، وبعد أن تكشف لنا أن لا أميركا ولا غيرها قادرة على أن توفر قوة ردعٍ للدولة العبرية، وأن توقفها عند حدّها، بل ولأن لا أميركا ولا غيرها تريد فعلاً أن توقف حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل ضدّنا، ولو أرادت لفعلت، وبعد أن قال نتنياهو كلمته الأخيرة إن عملية تغيير منطقة الشرق الأوسط قد بدأت، بعد هذا كله آن لنا أن نطرح أسئلتنا الصعبة على أهل المنطقة، ونحن نعرف مقدّماً أن لا إجابة شافية عليها في الحاضر، لكننا نقول ما نريد قوله كي نُخلي مسؤوليتنا، ونمارس “أضعف الايمان”، وذلك هو حسبنا.
لماذا لا يتداعى العرب “الرسميون” إلى تفعيل سلاح النفط والمقاطعة التجارية بوجه القوى الفاعلة في المجتمع الدولي التي تمتلك الحول والطول في ردع إسرائيل، لكي تجبرها على ايقاف حرب الإبادة التي تشنها ضد الفلسطينيين، ولكي توقف خطط توسيعها باتجاه لبنان والمنطقة، ولماذا نظلّ أسرى حساباتنا الخاطئة في إمكانية أن تقوم بيننا وبين العدو علاقات طبيعية، بعد أن سقطت آخر إمكانية لحلٍّ يجنّب المنطقة حرباً لا تبقي ولا تذر.
وبحسابات “أضعف الإيمان”، لماذا لا تبادر دول عربية شاءت، في زمن سابق، أن تقيم علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية تحت وطأة ظروف وأقدار، ولا نقول أكثر من ذلك، لماذا لا تبادر لقطع تلك العلاقة بعد أن جرى ما جرى، وصار بنا ما صار؟
لماذا يبدو صوت دمشق خافتاً، وهي إحدى عواصم “محور الممانعة”، في مواجهة ما يحدُث في فلسطين ولبنان؟
لماذا لا تتكرّم حكومة محمود عبّاس، وتعمل بإخلاص وفاعلية على توحيد الفصائل الفلسطينية، وأن تعيد النظر في موقفها من حركة حماس، وتسعى إلى بناء ثقةٍ متبادلةٍ معها. وفي المقابل، لماذا لا تراجع قيادة “حماس” نفسها، وتمارس نقداً ذاتياً لمسيرتها، وتعيد تقييم ما حدث، وتُبدي مرونة تجاه كل الأطراف الفلسطينية، وصولاً إلى حوار هادف، ولوضع تصوّر ممكن لمستقبل غزّة، ومستقبل القضية الفلسطينية ككل، بعد أن بلغ السيل الزبى، واشتدّت الغائلة على القوم؟
لماذا يبدو صوت دمشق خافتاً، وهي إحدى عواصم “محور الممانعة”، في مواجهة ما يحدُث في فلسطين ولبنان، وحتى في الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على أراضيها، وهي تكتفي في كل مرّة بادّعاء احتفاظها بالحقّ في الرد في الوقت المناسب، والظاهر أنه ما دام حكم العائلة محفوظاً ومصاناً برعاية دولية فإن “الوقت المناسب” لم يجئ، ولن يجيء.
دخل حزب الله الحرب المباشرة بكل قدراته مُجبرا بعد الانتكاسة المرّة التي سبّبتها له غزوة البيجر
يبقى السؤال الأخطر والأهم: لماذا لا تتحرّك إيران سيدة “محور المقاومة” وقائدة “وحدة الساحات” نحو أخذ المبادرة في مواجهة إسرائيل، وهي التي وعدت أهل غزّة فأخلفت، نتمنّى عليها ذلك، وإن كنا نعرف أنها فعلت منذ انطلاقة “طوفان الأقصى” كل ما يمكنها فعله كي تتجنّب المواجهة، وتودّدت إلى الأميركيين، وفاوضتهم عبر وسطاء، وعرضت مساعيها السلمية، واعترف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأن بلاده مارست ضبط النفس. وإلى ذلك أيضا ما قاله القيادي في الحرس الثوري محسن رضائي، بعد غزوة البيجر، إن سياسة المرشد هي تجنّب الدخول في الحرب، و”لا نريد حرباً، ولسنا من دُعاتها”، لكنها أوكلت رجال مليشياتها في لبنان والعراق كي يخوضوا الحرب نيابة عنها، لقناعتها بأن مهمّة كهذه لا تمثل خسارة لها، ولا تشكّل خطراً وجودياً عليها، ولذلك نراها لم تتحرّك حتى عندما وصلت إسرائيل إلى عقر دارها باغتيال رئيس المتكب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وهي تستضيفه في عاصمتها.
وعلى سبيل تذكير من يهمّه الأمر، مواجهة إيران إسرائيل لا تدخل في حساباتها الاستراتيجية المحسوبة في ثلاثة أهداف رئيسة: حماية نظام “دولة ولاية الفقيه”، وإنجاز مشروعها الإقليمي العرقي الطائفي المعادي للعرب، وسعيها إلى اتفاق مع أميركا والغرب يمكّنها من الحصول على القنبلة النووية ثالثاً.
ولكن، ثمّة “لكن” كبيرة، لقد دخل حزب الله الحرب المباشرة بكل قدراته مُجبرا بعد الانتكاسة المرّة التي سبّبتها له غزوة البيجر، والتي اعترف بها أمينه العام حسن نصر الله نفسه. … عند هذا المنعطف الصعب، تتجه الأنظار نحو إيران، إذ لا بد لها أن تواجه ما يخطّط له نتنياهو في جعل اللحظة الماثلة فاصلة ومصيرية، وإذا ما تنكبت إيران عن الفعل هذه المرّة، كما في المرّات السابقات، لن تخسر العالم فحسب، إنما ستخسر نفسها أيضاً، وستتذكّر عندها أنها أكلت يوم أكل الثور الأبيض!
المصدر: العربي الجديد