حين تتحوّل التكنولوحيا أداةً للقتل الجماعي

رندة حيدر

المسؤول الإسرائيلي الذي ضغط على “الزرّ الأحمر” لتفعيل العبوات التي فجّرت أجهزة الاتصال، التي يحملها آلاف من عناصر حزب الله، هو مجرم حرب، ومرتكبٌ لإبادة جماعية، وصورةٌ عن الشرّ المُطلق في عصر التكنولوحيا فائقة الدقّة. المسؤول الإسرائيلي الذي ضغط على الزرّ، وفي لحظة بتر أصابع المئات وإطفاء النور في عيون المئات وإدماء أجسادٍ وتشويه وجوهٍ، هو النموذج الآخر من المسؤولين الإسرائيليين الذين يجب أنّ تُلاحقهم المحاكم الجنائية الدولية بتهمة إبادة جماعية، فالهجوم خُطِّط له مسبقاً، وعن سابق تصوّر وتصميم، مع الإدراك الكامل بأنّه سينال من مئاتٍ في منازلهم، وفي أماكن عيشهم اليومي مع عائلاتهم وأودلادهم، وليس في جبهات القتال فحسب.

وقبل الحديث عن المآلات العسكرية لهجوم الاتصالات الإسرائيلي على لبنان وعن دلالاته، وعن ردّ حزب الله عليه، ثمّة أمر لا يقلّ خطورةً، وربّما أكثر هولاً وبشاعةً ولاإنسانيةً، في ما ارتكبته إسرائيل بعد ظهر يومَي الثلاثاء والأربعاء (17 – 18 سبتمبر/ أيلول الجاري)، وسيكون له تداعياته على الحروب المستقبلية، وليس محصوراً بالحرب الدائرة بين إسرائيل وحزب الله حالياً، ألا وهو تحويل تكنولوجيا الاتصالات أدواتٍ للقتل. ويضاف هذا إلى التاريخ الأسود للبرمجيات الخبيثة، التي أعدّتها صناعة الهاي تك الإسرائيلية، التي باعتها إلى الأنظمة القمعية والاستبدادية من أجل ملاحقة المعارضين السياسيين، والتجسّس على زعماء دول كبرى، واضطهاد الأقلّيات الدينية.

التكنولوجيا، التي أرادت من خلالها إسرائيل إظهار تفوّقها (الذي تتباهى به)، تأثيرها تكيكي ومعنوي وليس استراتيجياً

تسخير إسرائيل التكنولوجيا فائقة الدقّة في خدمة القتل الجماعي هو درجة أخرى من التوحّش الإسرائيلي، الذي رأينا نموذجاً له في حرب الإبادة في غزّة. وما يميّز هذا السلاح القاتل الجديد أنّه ليس قتلاً للأجساد، بل هو أيضاً وسيلة لتدمير المعنويات، إنّه سلاح ترهيبي من نوع آخر تريد من خلاله إسرائيل أن تبعث الرعب والخوف في كلّ مكان من لبنان.

أنشأت إسرائيل، منذ عام 2009، حيّزاً جديداً ضمن نطاق عمل الجيش هو المجال السيبراني، وحدَّدت هدفاً له؛ جمع المعلومات والهجوم عند الضرورة والدفاع. وبات السلاح السيبراني الرابع في الجيش إلى جانب أسلحة البرّ والجوّ والبحر، واهتمّت قيادات الجيش بوضع تصوّرات لعمل هذا السلاح الجديد، الذي سيكون له دور كبير في الحروب المستقبلية الإسرائيلية، لا سيّما في الحروب السرّية أو حرب الظلال التي تخوضها إسرائيل سرّاً وخفيةً ضدّ البرنامج النووي الإيراني مثلاً، وضدّ تنظيمات مُسلّحة غير دولاتية مثل حزب الله في لبنان. وعلى الرغم من اعتراف الإسرائيليين بعدم قدرة هذا السلاح على حسم المعركة في الميدان، فإنّه قادرٌ على تغيير أوجه المواجهات التقليدية، على سبيل المثال تبادل الضربات العسكرية المستمرّ بين حزب الله وإسرائيل منذ الثامن من أكتوبر (2023)، والتهديدات المستمرّة بالتدهور إلى حرب واسعة النطاق، ذلك كلّه اتّخذ منحىً آخرَ أكثر خطورةً وتعقيداً بعد عملية تفجير أجهزة الاتصال، أو كما يسمّيها الإسرائيليون “ليلة البيجر” (ما يُذكّرنا بـ”ليلة الكريستال”، التي هاجم فيها النازيون محلّات اليهود في ألمانيا ودمّروها تمهيداً للمحرقة في الحرب العالمية الثانية).

عناصر حزب الله رجالاً ونساءً، الذين استهدفتهم إسرائيل في منازلهم وفي الطرقات وفي الساحات، جزء من النسيج اللبناني

التكنولوجيا لا يمكنها حسم المواجهة العسكرية، ورغم الأضرار والأذى الكبير الذي لحق بعناصر حزب الله، وغيرهم من الأبرياء، فهي لم تقرّب إسرائيل قيد أنملة من هدفها الذي وضعته أخيراً بين أهداف الحرب، ألا وهو إعادة سكّان شمال إسرائيل إلى منازلهم. وهذه التكنولوجيا، التي أرادت من خلالها إسرائيل إظهار تفوّقها (الذي تتباهى به)، تأثيرها تكيكي ومعنوي وليس استراتيجياً. وآخر عملية خبيثة، رغم أنّها قد تُشكّل مُقدّمةً لحرب مُدمِّرة، فإنّها وفق مُحلّلين إسرائيليين كثيرين لم تساعد إسرائيل في وضع أهداف الحرب المُحتمَلة ضدّ حزب الله في لبنان، ولا استراتيجية اليوم التالي للحرب، ولا كيفية الخروج منها، باستثناء العودة إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي يُفاوض الموفدُ الأميركي الخاص، عاموس هوكشتاين، الفريقَين من أجل تطبيقه بعد وقف إطلاق النار.

عناصر حزب الله رجالاً ونساءً، الذين استهدفتهم إسرائيل في منازلهم وفي الطرقات وفي الساحات، جزء من النسيج اللبناني. الرجال والنساء على حدّ سواء، الذين قتلوا أو بُتِرت أعضاؤهم، أو أُطفئت عيونهم وتشوّهت وجوههم، هم ضحايا تكنولوجيا عمياء استخدمتها إسرائيل أداةً للقتل. من المحتمل أنّ هذا ضعضع البيئة الحاضنة لحزب الله، لكنّ أحداً من اللبنانيين لم تنطلِ عليه خدعة إسرائيل في استهدافها تحديداً عناصر الحزب من دون غيرهم، فاللبنانيون جميعهم، معارضو حزب الله والمُؤيّدون له، يشعرون اليوم أكثر من أيّ وقت آخر أنهم مستهدفون بآلة القتل العمياء الجهنمية للتكنولوجيا الإسرائيلية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى