استضعاف مسيحيي لبنان بعد تشتيت سنّته

دلال البزري

نتكلم هنا عن نظام طائفي، ليس لشْجبه، إنّما لوضع الصورة في محلّها.

قبل الحرب الدائرة في غزّة، استولى حزب الله على أراضٍ مسيحية، وبلدة لاسا في جبيل ليست إلّا واحدةً منها. ولا تُحصَى الأدبيات “الحزبلهية” التي تدعو إلى استعادة قرى جبيل وكسروان من أيادي المسيحيين، ومنها كلام قديم لأمين عام الحزب حسن نصر الله يعلن فيه: “لن نسامح من سيقيم كانتوناً مسيحياً في المنطقة الشرقية وفي جبيل وكسروان، لأنّ هذه مناطق المسلمين، وقد جاءها المسيحيون غُزاةً” (والمسلمون المقصودون هنا هم الشيعة). وحظُّ بلدة لاسا أنّها ملك الأبرشية المارونية، القادرة على الدفاع عن نفسها، أمّا بقية الأراضي فتحتاج إلى تحقيق دولي، على غرار التحقيق مع كُبريات السرقات المصرفية.

في أثناء المعارك القانونية، التي لم تثمر بعد عودة لاسا الى أصحابها، كان حزب الله يُبدّد المواقع المسيحية واحدةً بعد أخرى؛ قائد الجيش الذي يمَّدد له، البديل عن رئيس البنك المركزي الشيعي، خلافاً للعرف بأن يكون مارونياً؛ رئيس الجمهورية، المنصب الماروني الأعلى الشاغر منذ عامين، الذي يُعطِّل الحزب انتخابه إلّا إذا ضمن أنّ التصويت سيكون لمصلحة مرشّحه سليمان فرنجية، صاحب الكتلة المسيحية الأضعف من بين الأخرى (ثلاثة نواب)؛ اغتيال شخصيات مسيحية، ورفض التحقيق في اغتيالهم؛ توقيف شخصيات مسيحية للتحقيق؛ منع التحقيق في جرائم كان المسيحيون ضحاياها الأكبر عدداً (انفجار المرفأ مثلاً)… ناهيك عن أعمال طاولت بقية الطوائف، وفي طريقها كانت تهمّش المزيد من المسيحيين؛ مثل أسْلمة مظاهر الحياة، والاعتداء على دكاكين الخمر، ونصب الأعلام الصفراء وصور القادة “الإلهيين” في الطرق السريعة، وتأنيب لابسات “المايوه”، والتعييب على الساهرين والراقصين.

ضاعف انخراط حزب الله في حرب مع إسرائيل نرجسيته، ومن تخيّله لقدرته على التحكّم في الداخل اللبناني قبل خارجه. ومثل كلّ مرّة، كان نصيب معارضي حربه مع إسرائيل وضعهم في خانة الخيانة والصهيونية والإمبريالية. والكلام الآن أصبح أكثر قسوةً. مثلاً مواعظ الأحد، للمطران بشارة الراعي، قوامها وقف الحرب مع إسرائيل، انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتقوية الدولة اللبنانية. ويدعو الراعي أخيراً إلى قمّة روحية (رجال الدين من الطوائف كلّها)، فيكون جواب المفتي الشيعي الممتاز، الموالي لحزب الله أحمد قبلان: “لا نقبل التلاعب بالكنيسة لخدمة الإرهاب الصهيوني والجرائم العالمية”. النغمة نفسها عند رئيس البرلمان وشريك الحزب منذ دهر نبيه برّي: بعضهم “يريد أن يطعن المقاومة بالخنجر برفضه دعم المجهود الحربي”، ونائب حسن نصر الله نعيم قاسم: “سيموتون قهراً قبل أن يموتوا تحت القذائف الإسرائيلية”.

وإعلام الحزب لا يُقصّر. بعض أقلامه تُنظِّر لشيْطنة الموارنة، فيصف أحد مُفكّريه ما كان يُسمَّى “المارونية السياسية”. وكلبناني، تفهم من هذه التسمية أنّ مفكّرنا وقف عند الزمن الذي كان يهيمن فيه الموارنة على لبنان، أي قبل أكثر من نصف قرن. فيتساءل: المارونية السياسية تتهم حزب الله بأنّه يجّر لبنان إلى حرب مع إسرائيل؟ وأنّ له أجندة إيرانية؟ … حسناً، فيلكن واضحاً أنّ المارونية السياسية هي “خطّ الولاء لأميركا وإسرائيل”، وتأتي ضمن “فكرة مشبوهة اسمها تحييد لبنان”. وهي “فكرة تتناقض بخطّ مستقيم مع الكينونة الوجودية للبنان”. ونهج المارونية السياسية “لا وطني، خياني”، والدليل “عصابات بشير الجميل الإجرامية” (وبشير الجميل قتل منذ 42 سنة). ويخلص: “إنّ المارونية السياسية لم تكن يوماً، وهي الآن أكثر من أيّ وقت مضى، سوى فصيل عميل لأميركا وإسرائيل والسعودية، وقوّة عميلة تحتل لبنان، تتبع الجيش الإسرائيلي وتنفّذ أوامره، مثلها مثل أيّ عصابة من عصابات ذلك الجيش الإجرامي قاتل الأطفال والنساء والأبرياء”.

قياساً إلى بقية اللبنانيين، المسيحيون هم الأكثر تنوّعاً في تصعيد زعاماتهم. لديهم أكثر من رأي، ليس بين المجموعات المختلفة، إنّما داخلها أيضاً، ومجتمع مدني متمرّس

وعلى ذكر بشير الجميل، الزعيم الأول لدى مسيحيي لبنان، وذكرى اغتياله هذه الأيّام، يطلّ على الشاشة النائب السابق نوّاف الموسوي (مسؤول الموارد والحدود في حزب الله)، ويتكلّم عن مشكلة انتخاب رئيسٍ للجمهورية، فيقول إنّ رئيساً للجمهورية لا يوافق عليه حزب الله “لن يعيش، لن يبقى”، فيذكّر “واحد انتُخِب رئيساً ولم يحصل على موافقتنا… وطلع الشرتوني وقتله…” (حبيب الشرتوني قاتل بشير الجميل). والآن، يقود الحزب حملتَين، خلف ستار غير كثيف من دخان حرب الجنوب. الحملة الأولى لإعادة مناقشة القانون الجديد للانتخابات النيابية، قبل عامَين من عقدها، في أجندة بدت في غير محلّها، إلّا إذا كان القصد منها جسّ النبض المسيحي. فالذي أطلقها هو نبيه بري زعيم “أمل”، مسهّل أعمال الحزب في مؤسّسات ما تبقى من الدولة، و”المجتمع المسيحي العميق”، كما تصفه إحدى الكاتبات. يقلقهم المشروع الجديد، يعرفون من خلفياته وممّا سبقه أنّه من الأسلحة التي يُراد منها سحب المزيد ممّا لا يزال يمثّل رافعةً يستطيع المسيحيون التمسّك بها من داخل النظام.

تمسّ الحملة الثانية القانون مباشرةً، إذ تريد أن ترسي أرقاماً “مقنعة”. وفي بلد، توقّف فيه العدّ وإحصاء نسب طوائف منذ العام 1932، تجنّباً لـ”الفتنة”، أصبحت تقديرات الطوائف عملية سياسية تهدف إلى إضعاف حظوظ هذه أو تلك من الطوائف، بحرمانها من صعود ممثليها في الدولة والبرلمان والوزارة، أي في مجال “الحصص” الطائفية.

قبل الحرب بأشهر، قدّم رئيس الوزراء المحسوب على حزب الله نجيب ميقاني للحزب خدمةً، فأعلن أن المسيحيين في لبنان لا يشكلون أكثر من 19.5% من إجمالي عدد الآخرين. ولم يفصح عن مصدر أرقامه رغم إلحاح الصحافيين عليه. وبعيد الحرب بشهرين، أعلن حسن نصر الله في خطاب أنّ مجموعته السياسية هي “الأكبر في لبنان، ولها القاعدة الشعبية الأوسع”. مستخلصاً التساؤل: “هل نتوقّف (بهذه الحالة) عن العدّ؟”، ناسفاً بذلك العُرف الذي أقامه رفيق الحريري بأن تتوقّف آلة عدّ المسيحيين، وتكون حصّتهم السياسية محفوظة بصرف النظر عن وزنهم الديموغرافي.

انخراط حزب الله في حرب مع إسرائيل ضاعف نرجسيته، ومن تخيّله لقدرته على التحكّم في الداخل اللبناني قبل خارجه

ومنذ أيام، أثناء الحرب، صدرت “دراسة” في إعلام الحزب تقول إنّ نسبة المسيحيين في لبنان أصبحت توازي 15%. فكانت لها طنّة ورنّة، وما يشبه الاحتفال بها، بأنّها تأكيد على صوابية المقاومة، على ثقلها، على ضرورة إعادة البحث بقانون الانتخاب، وليعطى “كلّ ذي صاحب حقّ حقه”… إلخ. وكلّه يجري لصالح تهجير المزيد من المسيحيين، إن بقوا على عدم إذعانهم، يتمثلون بالسنّة، الذين فقدوا رئيسهم باغتيال نصف معترف به بيد حزب الله والسوريين، فتيتّموا، وتشتّتوا، وصارت القوى الدينية الإخوانية (جماعة إسلامية)، طاقتهم الوحيدة الآن، مع الحرب، فيما حُيِّد الدروز بفضل زعيمهم وليد جنبلاط، الذي انضوى هو الآخر تحت جناح الحزب، وبقي الزعماء المسيحيون يقاومون الإذعان. فقياساً إلى بقية اللبنانيين، المسيحيون هم الأكثر تنوّعاً في تصعيد زعاماتهم. لديهم أكثر من رأي، ليس بين المجموعات المختلفة، إنّما داخلها أيضاً، ومجتمع مدني متمرّس. لدى المسيحيين أفراد داخل الجماعة، ولكلّ فرد كيان. هم ورَثة أوروبا، بهذه الفردية الحداثية، التي كان يتمتّع بها التنويريون المسيحيون، وخصوصاً الموارنة من بينهم، هم روح لبنان، إذا راحوا، صرنا (بقية العرب) تحت سلطة قاهرة واحدة، مغمّسة بالشقاء.

والنجاح باقتلاعهم، كما حصل مع بقية مسيحيي المشرق، سيكون محاكاة واضحة لإسرائيل اليوم، ولكن من دون إبادة صريحة، بل بالاستنزاف البطيء، المخفي، المخيف، وبيد مجموعات وأحزاب دينية، تؤمن بأنّها تخوض حرباً مُقدَّسة حتّى ظهور المهدي، مثل نظيراتها الإسرائيلية، التوّاقة إلى لقاء المسيح اليهودي، وبناء الهيكل الثالث.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى