أيام كنت طالبًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة، تعرفت على اسم “نبيل عبد الفتاح”، للمرة الأولى، من بعض كتاباته في مجلة “السياسة الدولية” وصحيفة “االأهرام”، وكنت أحسبه من خريجي كليتنا، لدراساته العميقة في علم السياسة، حتى عرفت، فيما بعد، أنه درس القانون، في جامعة القاهرة، والحضارات في جامعة السوربون، لكنه حرص، طوال الوقت، على القراءة، بلا حد، في كل الاتجاهات، فانتقل من العمل بالمحاماة إلى البحث العلمي من باب وسيع، حين انتبه إلى قدراته العالم الراحل السيد يس.
التقيته للمرة الأولى عام 1995، حين كُلفت بكتابة الجزء الخاص بالطرق الصوفية في تقرير “الحالة الدينية”، ذلك العمل الفريد الذي صدر منه كتابان مؤسسان عن “مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية” بالأهرام. ذهبت إليه في مكتبه، وكان جالسًا خلف كتب وأوراق تغطي مكتبه، يعطيها صدره العريض، وهامته الطويلة. راح يشرح لي هدف التقرير، وطرائق عمله، والشمول والعمق الذي يبتغيه، وأنا أنصت إليه بإمعان.
تهاب منظره حين تقع عليه عيناك للوهلة الأولى، لكن ما إن يتحدث إليك، حتى تجد أمامك طفلًا كبيرًا كأنه يعرفك منذ سنوات طويلة، فتألفه وتحبه، وتدرك من عباراته التي صكها في عقله، ونفخ فيها من مخيلته، أنك أمام رجل عارف، وأمام فرصة سانحة للتعلم منه، بالتقاط بعض ما عنده. هو لم يكن غريباً عني، إذ أن دراساته حول الحركات الإسلامية، وتحليله للغرائز والمخيلات والأساطير الدينية، ومنحه السياقات الاجتماعية بعداً فلسفياً عميقاً، كانت من بين مصادري في أطروحتي للماجستير حول “التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر”.
عدت إليه بعد إنجاز أطروحتي للدكتوراه عن “القيم السياسية في الرواية” العربية لينشرها لي في كتب مركز الأهرام، إذ كان مشرفاً وقتها على إصدارته، ودار بيينا حديث طويل في مكتبه، بعد إطلاعه على الأطروحة، حول العلاقة بين الأدب والسياسة، ففوجئت بأن معارفه لا تقتصر على القانون والسياسة والاجتماع والفلسفة فقط، بل إنه عارف إلى حد عميق، بنظريات النقد الأدبي، وتلك العلاقة التبادلية، أو التغذية المرتدة بين نصوص الأدب وعوالم السياسة، ورحاب المجتمع.
لذا لم يكن ّغريباً عليَّ أن أراه فيما بعد حاضراً في الندوات الأدبية، وكاتبًا لمقالات نقدية كان ينشرها تباعاً في جريدة “أخبار الأدب” التي أسسها جمال الغيطاني، ثم محكماً في العديد من الجوائز الأدبية. وطالما جمعتنا لقاءات متكررة على المقهى أو في ندوات ومؤتمرات أو اتصالات هاتفية، كان النقاش فيها يمتد من السياسة إلى الأدب، ومن الاجتماع إلى الثقافة، ومن أحوال الناس إلى بطون الكتب.
وكم أذهلني أن هذا الرجل إحاطي المعرفة، لين العريكة، شديد التواضع، قد ضرب في كل موضوع بسهم. فحين شرعت في جمع مادة كتابي “الخيال السياسي” وجدت له مقالًا منشورًا بإحدى الصحف عن الخيال، وحين ألفت “المجاز السياسي” وجدت له مقالًا في هذا الموضوع، وتكرر الأمر مع كتابي “الفراغ السياسي”. ورغم أن هذه مجرد مقالات قصيرة، إلا أن فيها من عمق المعاني، وشمول الطرح، ما يفتح أمام المطلع عليها أفقًا رحبًا، فكل عبارة للرجل، مصكوكة بعناية، يمكن تفسيرها في صفحات وصفحات، وكل فكرة فيها من الألق والتوهج والمغايرة، ما يثير الكثير من الأسئلة، والمعرفة الحقة تطرح أسئلة بقدر ما تقدم أجوبة.
قبل ذلك اطلعت على كتاباته حول الجماعات السياسية الدينية، أثناء إعدادي دراسات أو تأليفي كتبًا عنها، فوجدت فيما كتبه الكثير المختلف عن السائد والمتاح والمكرور، حيث المعالجة التي تنفذ إلى الأعماق، وتنم عن معرفة بالأفكار والحركة، والتعبيرات والتدابير، مستفيدًا في هذا من دراساته لمناهج الشريعة الإسلامية، كجزء من مساق دراسة القانون، وفي إطلاعه الخاص على كتب الفقه، ومعرفة الرؤى المتتابعة حول تجديد الخطاب الديني، ومن إدراكه السياق الاجتماعي الذي تنشأ فيه هذه الجماعات والتنظيمات، وتعمل.
في الشهور الأخيرة انشغلت بمجال “الدراسات الثقافية”، وقبله بمنهج البحث “العابر للأنواع” فأدركت أن نبيل عبد الفتاح، قد سبق كثيرين في بلادنا، اقترابًا من هذه المجالات، ومن المؤكد أن دراسته في السوربون جعلته يلمس طرائق المعرفة هذه قبل أن تترجم إلى لغتنا العربية، وتصبح في متناول الباحثين والنقاد الآن. اكتشفت هنا لماذا يتمتع الرجل بهذه التفكير الجانبي المبدع، وتلك النظرة الشاملة، التي تنظر إلى الظواهر من زوايا متعددة.
ورغم قدرته الفائقة على التنظير، وعبر لغة للخاصة، لا ينعزل عبد الفتاح، الذي يمضي في العقد الثامن من عمره، عن الأحداث الجارية والسارية، فكلما جدت ظاهرة، أو وقعت واقعة، أو انطلق حدث، التقطه، وكتب عنه ساحبًا إياه إلى القيعان البعيدة. لهذا لم يكن مستغربًا أن يكتب كتابًا عن ثورة يناير، وآخر عن التدين الرقمي، وينتج دراسات حول الأجيال والطبقات الاجتماعية، وأخيرًا كتابه عن الحرب الإسرائيلية على غزة. ليضيف هذه الكتب والدراسات إلى مؤلفاته السابقة، والتي أخذت عناوين ساحرة هي: “المصحف والسيف” و”عقل الأزمة” و”اليوتوبيا والجحيم” و”النخبة والثورة” و”تجديد الفكر الديني” و”الوجه والقناع” و”النص والرصاص” و”الإسلام والديمقراطية والعولمة” و”سياسات الأديان” و”الخوف والمتاهة” و”الدين والدولة الطائفية”.
لا يدري كثيرون الآن أن هذا المفكر الكبير يجد صعوبة في نشر كتبه، حتى أنه يضطر إلى المساهمة في طباعتها، كليًا أو جزئيًا. ولا يدري كثيرون أيضًا أنه حتى الآن، لم ينل جائزة من بلده، وهو الجدير منذ سنوات بحصد جائزة الدولة التقديرية، فهو زاهد في هذا السباق، متعفف عن ألاعيبه، يصد كل من يدفعه، وأنا منهم، إلى الترشح للجوائز، لأنه يستحق، ليجد تكريمه في قارئ واع، يقدر ما أنتج وأنجز، عن طيب خاطر وصبر وأناة، ويعرف معه قيمة العلماء الكبار، الذين يخلصون في العطاء، دون انتظار شيء.
المصدر: المصري اليوم
سردية متكاملة عن سيرة وتقييم المفكر صاحب العقل الكبير والنفس المتسامحة “نبيل عبد الفتاح” قدم الكثير من الدراسات الفكرية ولكن مواقفه ورؤيته الجادة لم تجعله من أصحاب الجوائز والمناصب.