في كل صولاته وجولاته، يحرص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تصوير إيران كخطر وجودي يهدد استمرار الدولة الإسرائيلية، ولا يتناول حزب الله والميليشيات التي تدور في فلكها إلا بوصفها منظمات ولائية قليلة الشأن ستتهاوى سريعًا في حال تم توجيه ضربة مؤثرة إلى المركز.
وتبدي إيران من جهتها رغبة في تضخيم شأن ميليشياتها وخطورتها والتفاوض عبرها وعليها، إلى حد التضحية بها. ولعل حزب الله قد استشعر، أو ربما أُبلغ، أن معركته الحالية، التي قد تكون آخر معاركه، هي معركة فداء لإيران. لذا يحرص الحزب على وزنها بميزان الذهب وإبقائها ضمن حدود تتيح لإيران إنجاز مشاريعها التفاوضية بسلاسة ومن دون التعرض لضربة إسرائيلية قاصمة.
لا تتناسب المعادلات الأميركية القائمة حاليًا في الفترة الأخيرة من ولاية الرئيس الديمقراطي جو بايدن مع طموحات نتنياهو، إذ إن المسارات التفاوضية الأميركية الإيرانية المتقدمة حول الموضوع النووي لا تضمن له الانضباط الأمني الذي يطمح إليه. لذلك يسعى إلى إفشال كل مساعي التفاوض في المنطقة، سواء ما يتعلق بالحرب في غزة أو بالصفقة المنتظرة مع إيران.
الضربة الأخيرة في سوريا، التي تعد الأشرس والأعنف منذ فترة طويلة، لم تكن عادية. شبكة المواقع التي استهدفتها شملت مواقع إيرانية مهمة في الساحل السوري وحماة وريف مصياف وسواحل بانياس، وطالت مراكز تصنيع السلاح في مركز البحوث العلمية ودمرت شحنات أسلحة إيرانية وأدت إلى إصابة أكثر من 57 شخصًا بين قتيل وجريح.
حجم الهجوم يشير إلى أن آلة الحرب الإسرائيلية تنفذ قرارًا سياسيًا حاسمًا بتغيير المعادلات التي حكمت الصراع بين إسرائيل وإيران، خصوصًا بعد تفكك محور الممانعة وإعلان نظام الأسد عن عدم رغبته في المشاركة في حرب المساندة التي يخوضها حزب الله. كما أن إيران نفسها، وعلى لسان المرشد الأعلى علي خامنئي، تعلن أنه لا ضير من التراجع التكتيكي أمام إسرائيل، إذ يمكن أن يتم هذا التراجع في الميدان العسكري وفي الميدان السياسي أيضًا.
توقيت هذه التصريحات، التي جاءت بعد محاولة الاتكاء على التجييش الطائفي في تصريحات حول الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية، يشير إلى رغبة إيران الشديدة في إنجاز صفقة مع أميركا بأكبر قدر ممكن من السرعة، بينما لا تزال في وضع تتمتع فيه بقدر محسوس من النفوذ في المنطقة يمكن أن تتفاوض من خلاله وعليه.
ولكن نتنياهو يرى الفرصة سانحة لتوجيه ضربات قاصمة لإيران في ظل إدارة مترهلة تعيش لحظاتها الأخيرة، ولا يمكن فيها للرئيس الأميركي اتخاذ قرار صارم يمنع نتنياهو من تنفيذها، ولا يستطيع كذلك إيقاف تمويله بالمال والسلاح.
المعادلة الجديدة التي كشفت عنها الضربة القاسية في سوريا تفترض مقايضة الامتناع عن تنفيذ ضربة كبرى ضد إيران بالسماح بإنهاء نفوذها في المنطقة، خصوصًا بعد أن انكشفت هشاشة معادلات الردع التي يهدد بها حزب الله، وظهر بشكل جلي مدى التفوق الأمني والعسكري الإسرائيلي.
وكان لافتًا تزامن الضربة مع لغة إسرائيلية مختلفة تضع الأمين العام لحزب الله في دائرة الاستهداف. فقد أدلى عضو الكنيست الإسرائيلي نيسيم فاتوري بتصريح إذاعي نقلته صحيفة “معاريف”، يؤكد نضوج قرار التوجه إلى الحرب في الجبهة الشمالية، ويشير إلى معرفة مكان اختباء حسن نصر الله ووضعه على قائمة التصفيات.
كما أن التصريحات المتتالية التي تظهر على ألسنة قياديين إسرائيليين تفصل بين الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، وتعتبر أن إنجاز صفقة تبادل مع حماس سيسمح بالقضاء على تهديد الجبهة الشمالية.
الارتباط بين الجبهة اللبنانية وسوريا وثيق في الاستراتيجية الحربية الإسرائيلية، إذ إن مخازن السلاح الإيرانية ومعامل الإنتاج والتصنيع الحربي المنتشرة في مناطق نفوذها في الداخل السوري تشكل عوامل الثقل الأساسية في قوة حزب الله، الذي نجح على مدى سنوات في تهريب الأسلحة الثقيلة إلى لبنان.
ضربت إسرائيل كثيرا من شحنات السلاح، ولكن قسمًا كبيرًا منها نجح في العبور إلى لبنان، الذي بات محمية حربية إيرانية يسيطر عليها ربيبها حزب الله. حرص الحزب على إطلاق رسائل تشير إلى قدرته على خوض معركة مكلفة عبر فيديوهات تظهر أنفاقًا حربية تُخزن فيها الصواريخ والأسلحة، مثل فيديو “عماد 4” وغيره.
ولكن كل تلك الاستعراضات لم تتجلَّ في الميدان، إذ بقيت ردود الحزب هزيلة وكاريكاتورية. نجحت إسرائيل في خلق حالة رعب عامة تجعل من كل موالٍ للحزب أو مقرب من أحد أفراده بمثابة جاذب للاستهداف. ويتكرر الأمر نفسه في سوريا، إذ إن المقربين من إيران وأعضاء ميليشياتها باتوا منبوذين لأنهم يستجلبون الغارات المباشرة، في ظل سيطرة أمنية استخباراتية وميدانية محكمة في سوريا ولبنان.
وعليه، فإن إنهاء الوجود الإيراني في المنطقة هو الثمن المقبول إسرائيليًا للسماح بتمرير صفقة مع إيران. اللافت أن إيران نفسها لا يبدو أنها تمانع مثل هذا السيناريو طالما يجنبها تجرع كأس سم الضربات الإسرائيلية المباشرة.
يقرأ حزب الله كل تلك التحولات ويحاول خلق معادلات ضبط لا تبدو إسرائيل مهتمة بها. كما أن الحدود التي تطرحها إيران للتسويات معها لا تبدو مقبولة، فإسرائيل لم تعتبر أن امتناع إيران عن الرد على اغتيال قائد حماس إسماعيل هنية في إيران كان كافيًا. بل المطلوب هو القضاء على قدرتها على تهديد إسرائيل في المنطقة وضبط حدود الصفقة النووية الأميركية معها بحيث تضمن عدم قدرتها على امتلاك سلاح نووي. إيران المقبولة إسرائيليًا هي إيران ملجومة وبلا أنياب.
تتجنب إيران تجرع كأس السم مرارًا وتكرارًا، وتتلعثم كؤوس الصبر الاستراتيجي، ويحاول حزب الله أن يفعل الأمر نفسه، ولكنه ليس منتج الصفقة، بل ثمنها الذي يُفترض أن تمر على جثته بعد خراب مرير وعميم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا