التنشئة السياسية ودورها في تنمية المجتمع (1 – 3)

د- عبدالله تركماني

تنطوي الحياة العالمية المعاصرة على أكثر من دلالة حقوقية وسياسية تشكّل، في وجه من وجوهها، فلسفة قوامها الإنسان الذي يتعيّن تحريره من الظلم والاستبداد والخوف، وهدفها ضمان الحرية والمساواة والتضامن والتنمية الشاملة المستدامة، وأداتها إرساء دولة الحق والقانون في تناسق مع المجتمع المدني الهادف إلى ضمان الأمن والاستقرار والرخاء لأبنائه. ومن المؤكّد أنّ ترسيخ هذا الوجه مرتبط بمدى نجاح التنشئة السياسية لأفراد المجتمع من جهة، وأنسنة المؤسسات السياسية من جهة ثانية، وارتباطه بمشروع وعي نقدي تنويري من جهة ثالثة.

وعلى هذا الأساس يندرج موضوع مقاربتنا في إطار التحديث السياسي للمواطنين والدولة بهدف إنجاز الأهداف الكبرى للتنمية المستدامة التي ترنو إليها مجتمعات العالم المعاصر، إذ يعيش العالم اليوم تحوّلات كبيرة بسبب التقدم التكنولوجي السريع الذي لم تشهده أية مرحلة سابقة في تاريخ الإنسانية. فهناك زيادات سنوية لا حصر لها في حجم الإنتاج، وتقنياته، وأدواته، وفي توظيف المعلومات، والتواصل، والانفتاح التفاعلي الشامل بين الأفراد والجماعات والدول، وترابط الأسواق التجارية والمالية والخدمات، وانسياب الأشخاص والأفكار والسلع عبر جميع القارات، والاتجاه البارز لإقامة تكتلات اقتصا – جغرا – سياسية عملاقة على المستوى الكوني، وغيرها. ويعيش عالم اليوم ظاهرة ” الإنسان الكوني ” أو ” الإنسان المعولم “، بالإضافة إلى وجود نوع مـن ” حكومة عالمية ” غير منظورة تقودها نخب سياسية فاعلة في النظام العالمي الجديد وذات تأثير هائل على الحكومات المحلية.

ويبدو أنّ البديل الوحيد عن انهيار مدنيتنا هو إعادة تنظيم الأوضاع إعادة شاملة حتى تتوافق مع نظام عالمي جديد يوجّه القوى الجديدة نحو غايات نافعة، ويراعي المصلحة المشتركة للمدنية المعاصرة، ويحوّل قوى العلم الحديث من إنتاج أسلحة الحرب والدمار الشامل إلى خلق الثروة والقضاء على الفقر والجوع والمرض، وعلى القلق الاجتماعي الناجم عن هذه الشرور والذي يشكّل السبب الرئيسي للحروب. والصعوبة هنا ليست صعوبة تنظيمية فقط، وإنما الصعوبة هي في تهيئة الشعوب والدول للتخلّي عن عادات ومفاهيم راسخة لديها.

إنّ مسعى الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة تركيب بنى دولنا العربية تحت شعار ” الشراكة من أجل الديمقراطية ” و” النظام الإقليمي الشرق أوسطي ” ليس خافيا علينا، ولكنه يطرح علينا مجموعة من الاسئلة الأساسية: هل صحيح أنّ علاقتنا بالغرب مستحيلة؟ هل صحيح أنّ هذا العالم مغلق أمام العرب لأنهم عـرب؟! أم أنّ الصراع والتعاون لا يزالان مفتوحين، وهما بالتالي يسمحان لنا بأن نعيد النظر في كيفية إدارتهما؟ هل نحن مجرّد أبناء أمة كانت، وهي لا تعيش إلا على لغة ماضيها  أم أننا نستطيع أن نكون بصيغة جديدة؟!

ومن أجل تناول القضايا التي تثيرها مقاربتنا حول ” التنشئة السياسية ودورها في تنمية المجتمع ” ارتأينا أن نتناول الموضوع طبقا لأربعة عناصر: أولها، مدخل منهجي. وثانيها، في مفهوم تنمية المجتمع وأهدافها. وثالثها، في مفهوم التنشئة السياسية وأدواتها. ورابعها، دلالات التنشئة السياسية ودورها في التنمية المجتمعية العربية.

I – مدخل منهجي

ثمّة مجموعة مصطلحات ومفاهيم ضرورية لمقاربتنا حول التنشئة السياسية ودورها في تنمية المجتمع، من أهمها:

(1) – أنّ التنمية الإنسانية عملية لتوسيع الخيارات أمام البشر، بما ينطوي عليه ذلك من وجوب تَمَكُّنهم من التأثير على العمليات والقرارات التي تشكّل حياتهم. ذلك أنّ محور التطوّرات المعاصرة هو الإنسان ومدى تقدّمه العلمي والحضاري، وعليه فجميع مسارات التنمية لا بدَّ من أن تبدأ من ساحة التنمية البشرية. من هنا كان الاهتمام بتأمين حقوق الإنسان الأساسية، وتنمية قدراته ومواهبه، هو العامل الرئيسي في تطوّر الأمم، بل أصبحت هذه العناصر هي محور الجهود الدولية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

(2) – أنّ الحديث عن التنشئة السياسية هو حديث، في الجوهر، عن الفضاء العام لتنمية الثقافة السياسية وتحديث المجتمع، وانطلاقا من هذا التصوّر تقوم مقاربتنا على الاعتبارات التالية:

(أ)- أنّ التنشئة السياسية عمل يهدف إلى ترسيخ ثقافة تدافع عن مكانة الإنسان ودوره في تنمية مجتمعه، وعن حقوقه وواجباته.

(ب)- أنّ هذه التنشئة هي المقدّمة المنطقية والواقعية لكل عمل هادف إلى تنمية العنصر الإنساني، وتثقيف قيمه وسلوكه، كمدخل ضروري لتنمية المجتمع وحداثته.

(ج)- أنّ التنشئة السياسية في الأسرة والمدرسة هي استجابة للأسلوب التربوي الحديث، بما هو انفتاح على المحيط الوطني والعالمي، وبما هو ترسيخ لقيم التسامح واحترام الرأي الأخر وحلِّ الإشكالات والخلافات بشكل سلمي والانخراط في العمل الجماعي المنتج.

(3) – لقد أضحى تعبير المواطنة جزءاً من ثقافة اجتماعية وسياسية جديدة يُعبَّرُ عنها بـ ” الحداثة “، وجزءاً من نظام سياسي يقوم على الدستور، ودولة وطنية تقوم على السيادة الوطنية، وجزءاً من حقوق وواجبات ينتظم فيها الفرد بموجب عقد اجتماعي يجعله مواطناً في دولة. تحقّق ذلك في التاريخ الغربي الحديث، وكان أبرز تجلّياته إعلان الاستقلال الأمريكي في العام 1776 وأفكار الثورة الفرنسية وقبلها أدبيات التنوير، وبصورة خاصة إعلان حقوق الإنسان والمواطن في العام1789.

والخلاصة أنّ مفهوم المواطنة يحيل إلى شرطين أساسيين (1):

  • الدولة الوطنية، وما يستتبع ذلك من إقامة مجتمع وطني يقوم على اختيار إرادة العيش المشترك بين أبنائه.
  • النظام الديموقراطي ومرتكزاته الكثيرة على مستوى التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الخاص والعام، وبين الخصوصيات والشمول.

   (4) – الديمقراطية اليوم ضرورة من ضرورات العصر، أي أنها مقوّم ضروري لإنسان هذا العصر، هذا الإنسان الذي لم يعد مجرّد فرد من ” رعية ” بل هو ” مواطن ” يتحدّد كيانه بجملة من الحقوق، هي الحقوق الديمقراطية التي في مقدمتها الحق في اختيار الحاكمين ومراقبتهم وعزلهم، فضلاً عن حق الحريـة، حرية التفكير والتعبير والاجتماع وإنشاء الأحزاب والنقابات والجمعيات، والحق في التعلّم والعمل والمساواة وتكافؤ الفرص… الخ. وإذن فالمسألة الديمقراطية يجب أن ينطلق النظر إليها، لا من إمكانية إرساء الممارسة الديمقراطية في هذا المجتمع أو ذاك، بل من ضرورة إرساء أسسها وتحديد آلياتها والعمل بها، بوصفها الإطار الضروري لتمكين أفراد المجتمع من ممارسة حقوق المواطنة من جهة وتمكين الحاكمين من الشرعية التي تبرّر سلطتهم وحكمهم. وبغض النظر عن المعاني والتعريفات المتعدّدة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية: توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقاً للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدّد السياسي والفكري. وفي ضوء هذه المبادئ فإنّ هناك العديد من الآليات والضوابط الإجرائية والتنظيمية لتطبيق الديمقراطية منها: القبول بالتعدّد التنظيمي والمؤسسي في شكل أحزاب ونقابات وجمعيات..الخ، وتأكيد الفصل بين السلطـات، وضمان استقلال القضاء، ومشاركة المواطنين في صنع القرار، والانتخابات النزيهة، وتوفير ضمانات الرقابة السياسية وحرية الصحافة، والفصل بين جهاز الدولة والحزب الحاكم.

(5) – أنّ إعادة بناء مفهوم الدولة داخل الفكر السياسي المعاصر، منظوراً إليها من زاوية كونها حقلاً يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وتوازنات القوى فيها، سمحت بإعادة تمثّل مسألة الديمقراطية والنضال الديمقراطي، كما أخرجت الحركات السياسية من عزلتها لاضطرارية أو الاختيارية عن الشعب، ودفعتها إلى الخروج بالعمل السياسي من دائرته السرية المطلقة إلى الدائرة الأوسع، وأنقذت التفكير السياسي من مصطلحات القاموس العسكـري، كما قلّصت من مظاهر ممارسة السياسة بمنطق الحرب. إنّ إدارة التعددية الفكرية والسياسية بشكل حضاري، بما تفرضه من قيام مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وبما تفرضه من علاقة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، تحمل بين طيّاتها إغناء لوحدة مكوّنات الدولة والمجتمع.

الهوامش:

  • – د. وجيه كوثراني: المواطنة والانتماء، الجزء الأول – عن صحيفة ” الحياة ” اللندنية 28 كانون الثاني/يناير 2002.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. العالم اليوم يشهد تحوّلات كبيرة بالتقدم التكنولوجي السريع لم تشهده مراحل سابقة في تاريخ الإنسانية. زيادات لا حصر لها في حجم الإنتاج، وتقنياته، وأدواته، وتوظيف للمعلومات، والتواصل، والانفتاح التفاعلي، قراءة موضوعية للتنشئة السياسية ودورها في تنمية المجتمع، من دولة المواطنة والمواطنة كممارسة وحدود، لإعادة بناء مفهوم الدولة داخل الفكر السياسي المعاصر.

زر الذهاب إلى الأعلى