صحيحٌ كل الصحّة أن توقيع 17 اتفاقية بين تركيا ومصر، في أثناء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي أنقرة الخميس، يعكس اندفاعة متقدّمة في مسار العلاقات التي تتحسّن باطراد بين البلدين، غير أن هذا لا يُخفي أن مساحة التفاهمات السياسية بينهما ما زالت ضيّقة، أو بتعبير أدقّ ربما أن مساحة الخلافات بينهما في غير ملفٍّ إقليمي ما زالت على اتّساعها. وفي الوقت نفسه، ثمّة درسٌ من بالغ الضرورة القناعة به، تُعطينا إياه هذه العلاقات الملتبسة بين البلدين الكبيريْن، موجزه أن في الوسع أن تنحّي الدول مواضعَ الخلاف، أو التنازع الحادّ أحيانا، عن المنافع والمصالح بينهما، ومنح الأخيرتيْن الأولوية في التداول بينهما. وهذه تصريحات الرئيسين، السيسي وأردوغان، في أثناء الزيارة، تلحّ على “توطيد العلاقات” وأهمية “التنسيق والتعاون”، سيّما وأن ثمّة مجلساً للتعاون الاستراتيجي بين البلدين أعيد تشكيلُه في أثناء زيارة الرئيس التركي القاهرة في فبراير/ شباط الماضي، والتي تبدو زيارة السيسي استكمالاً لها، غير أن التصريحات تبدو بروتوكولية، إذا ما انصرفنا عن التقدّم الكبير في الاتفاقيات الاقتصادية التي شملت قطاعاتٍ عدّة، منها الطاقة والاتصالات والصحّة، وترمي، أساساً، إلى رفع حجم التبادل التجاري السنوي من عشرة مليارات دولار إلى 15 ملياراً، ذلك أنه باستثناء “الاتفاق” على مطالبة الرئيسيْن بوقف إطلاق النار الفوري في غزّة، والذي يبدو نافلاً، إنْ لم نحسبًه غير ذي جدوى، لم يُعلن عن أي اتفاقٍ في مباحثات الرئيسين بشأن الملفّات الملغومة، ليبيا والحدود البحرية والصومال، أمثلةً.
على الرغم من بعض انفتاحها النسبي على حكومة “الوحدة الوطنية” الليبية (المؤقّتة)، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في طرابلس، وقد وقّعت معها 13 اتفاقية تعاون (منها تفعيل الربط الكهربائي)، إلا أن القاهرة باقيةٌ على إسناد كيانات خليفة حفتر في الشرق الليبي، ولم تُغادر الدعم العسكري (والسياسي) له، ومن ذلك استقبال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الشرق، المكلفة من مجلس النواب، والتي توالي حفتر، أسامة حمّاد. وذلك فيما تتابعت أنباءٌ عن تحرّكات عسكرية مكثّفة ونشطة لقوات حفتر باتجاه جنوبي غرب البلاد، فيما حشدت قواتٌ تابعة لحكومة الدبيبة تحسّباً، بالتوازي مع أنباء عن تحرّكات عسكرية تركية في الغرب، مع تدعيم قوات حكومة طرابلس بعتادٍ تركيٍّ جديد، وليس بادياً أن كلام السيسي وأردوغان، في المؤتمر الصحافي المشترك لهما، عن إخراج المليشيات الأجنبية في ليبيا يحسم شيئاً.
ومع محادثاتٍ متقطّعةٍ بين أنقرة والقاهرة بشأن “إعادة” ترسيم الحدود المائية، بعد اتّساع الشقة بينهما عقب توقيع مصر اتفاقية مع قبرص (الشمالية) واليونان على إنشاء منتدى غاز شرق المتوسّط، وترسيمٍ للحدود البحرية مع اليونان في 2020 (قال خبراء إنها تنتقص من حقوقٍ مصرية؟)، ليس ظاهراً أن هذا الملف “الملغوم” في العلاقات المصرية التركية، المتحسّنة، في سبيله إلى حلٍّ، تُغادر فيه أنقرة انزعاجها الشديد مما كانت قد اعتبرته “استفزازا” مصريا.
ولم يقع المدقّق في تفاصيل المباحثات بين الجانبين، في غضون الزيارة المهمّة، أنه جرى الإتيان على ما يمكن أن تفيد القاهرة من العلاقات مع إثيوبيا التي تحظى بأولويةٍ قصوى لدى صانع القرار في أنقرة، ليس فقط بالنظر إلى أن مائتي شركة تركية تنشط في قطاعاتٍ عديدةٍ في هذا البلد، وإنما أيضا بالنظر إلى حسابات جيواستراتيجية تركية في أفريقيا، مدفوعة بمنافع اقتصادية كبرى. وهذا إرسالُ مصر أخيراً أسلحةً ومعدّات إلى الصومال، في أجواء تصاعدٍ في توتر علاقات البلدين مع إثيوبيا التي افتتحت لنفسها سفارة في “أرض الصومال”، يطرح تساؤلات بشأن “احتكاكات” محتملة في الأراضي الصومالية مع تركيا التي بادرت إلى محاولة وساطة بين مقديشو وأديس أبابا، بعد أن كانت قد وقّعت اتفاقات لترسيم وجود قوات تركية، برّية وبحرية، في الصومال.
… إنها البراغماتية السياسية في أقصى صورها، عندما تُخفي المجاملاتُ البروتوكولية فيها خلافاتٍ ليست سرّية، وعندما تكون المنافع الاقتصادية المتبادلة أولوية الأولويات، والتي من فوائد منظورة لها أنها قد تُطفئ أي توتّراتٍ محتملة ترجّحها “ألغامٌ” باقية. هذا من بعض أوجه الدرس البادي في زيارة عبد الفتاح السيسي أنقرة.
المصدر: العربي الجديد
زيارة السيسي لأردوغان مسحت #الرابعة و #مرسي و #أحواض_الغاز_بشرق_المتوسط، هل هي البراغماتية السياسية في أقصى صورها، لتُختفي المجاملاتُ البروتوكولية فيها خلافاتٍ ليست سرّية، وعندما تكون المنافع الاقتصادية المتبادلة أولوية الأولويات، والتي من فوائد منظورة لها أنها قد تُطفئ أي توتّراتٍ محتملة ترجّحها “ألغامٌ” باقية؟؟