يدعو وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير لإقامة كنيس يهودي داخل المسجد الأقصى، فنكتشف أن للعالم العربي مشاعر قد تم استفزازها.
تتصاعد الاحتجاجات من كل حدب وصوب، ومعها ترتفع نبرات الغضب والإدانة بينما يستكمل الجيش الإسرائيلي مهمته الإبادية في غزة بكل سلاسة، بالتزامن مع الذكرى الحادية عشرة لمجزرة الغوطة في دمشق التي تشهد على تغاضي العالم عن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي المحرم ضد الأبرياء والعزل.
كل ذلك الدم السوري مرَّ خفيفًا على ضمائر العالم، وبعده ها هو الدم الفلسطيني يفشل في أن يحل في واجهة الأحداث، فقد كان الكثير من المحللين يعتقدون أن العدوان على غزة والمشاهد المروعة المنبثقة عنه ستشكل عاملًا فاعلًا في المعركة الانتخابية الأميركية.
اتضح مع إعلان الحزب الديمقراطي رسميًا ترشيح كامالا هاريس لمواجهة ترامب أن مسألة الإبادة ليست مادة للسجال، بل يسعى كل من المرشحين إلى التنافس على دعم إسرائيل في خضم مجزرة جارية لا تشكل معها الدعوات إلى التهدئة وإنجاز اتفاق يسمح بوقف إطلاق النار أي قيمة فعلية مع استمرار تدفق السلاح لصالح الجيش الإسرائيلي.
وعليه، فإن ذلك التفاهم مع المجازر الذي طبع التعامل مع الشأن السوري منذ انفجار الثورة عام 2011 ينتقل الآن إلى الموضوع الفلسطيني. ومع البروز الواضح لهذا النمط العام من البناء على ما تفرزه المجازر لتكوين السلطات وترميمها، تتجلى استراتيجية توظيف المشاعر العامة وسطوة الأماكن الدينية المقدسة والمبجلة عند العامة كبديل عن السياسة وتحمل المسؤوليات والبحث عن حلول.
خريطة الأماكن المشحونة بالقداسة والقيمة الأثرية والتاريخية التي دُمِّرت في سوريا أكثر من أن تُحصى، وكانت الاستهدافات التي طالتها مقصودة في أكثر من مرة، بحد ذاتها ومن دون عنوان عسكري، بهدف تفكيك البنية الرمزية والثقافية التي تمثلها، وتوليد تاريخ جديد يقوم بجوهره على استنباط المعنى والذاكرة والسياسة من الأنقاض والخراب.
التاريخ السوري حافل بقصص البنائين الكبار في شتى الميادين، ما جعل هذا البلد مستعصيًا على الفناء.
ولا شك أن فترة الحرب الطويلة والمستمرة في سوريا والإبادات التي نجمت عنها وطالت مدنًا كاملة ومواقع تاريخية وأثرية وأنماطًا عمرانية وأشكال عيش إضافة إلى مجموعات بشرية عريضة، قد أسست لذاكرة تربط بين معنى الهوية السورية وفكرة الدمار والعذاب والمحو.
ولكن على الرغم من ذلك، لم يمت الأمل، لو كان قد تم الدفاع عن الإنسان السوري الذي طالما كان في تاريخه وحاضره قادرًا على البناء وإعادة الإعمار.
التاريخ السوري حافل بقصص البنائين الكبار في شتى الميادين، ما جعل هذا البلد مستعصيًا على الفناء. ولكن المشروع الجديد لعالم التوحش الأسدي، كما يتم تصميمه بدعم من عالم يتجاهل ويبرر ويشرعن، يقوم على تفكيك شروط وجود الإنسان السوري.
لم يسبق أن كان العالم مفتقدًا للحس الإنساني إلى هذه الدرجة، فقد بات التجاهل وشرعنة المجازر بمثابة القانون العام للسلطات في المنطقة والعالم، وليس خللًا في انتظام الوجود والزمان وفكرة الحداثة والمعاصرة، بل عنوانًا لها ونسقًا تبني على أساسه أحوالها وقيمها.
وفي لحظة الإبادة التي تصيب الفلسطينيين، يأتي بن غفير ليذكرنا بالأقصى، وكأن هذا الاستفزاز جديد أو كأنه شرط لكي يبرز التعاطف مع الفلسطينيين في الوقت الذي تتضاءل فيه مظاهر الدعم حتى على مستوى الشكل في جل العواصم العربية.
وفي هذا الصدد، يمكن عقد مقارنة بسيطة بين بيروت ومدريد. فأينما توجهت في مدريد تجد ما يذكرك بالقضية الفلسطينية، لدرجة أن الرموز الفلسطينية الشائعة تحولت إلى نوع من “الكود” الثقافي والبصري الذي يمثل هوية المدينة. بينما تتضاءل مثل هذه المشاهد في بيروت التي طالما قيل عنها إنها رافعة القضايا العربية، وتستبدل عناوين التضامن مع فلسطين بلوحات إعلانية ضخمة تروّج للعنصرية ضد اللاجئين السوريين.
فعلة بن غفير ساهمت في تظهير الخواء السياسي والأخلاقي الذي تعاني منه المنطقة. الدفاع الشكلاني عن الأقصى عاطفي وآيل للشعرنة وقادر على خلق تأثير عمومي، ولكنه في الآن نفسه يسمح بتوليد مجال فصل بين عمومية المكان وعالميته وبين الخصوصية الفلسطينية وواقع المجزرة الجارية.
قد يكون السؤال عن اليوم التالي ما بعد غزة أو ما بعد ما يجري في سوريا شاقًا ومؤلمًا، إذ إن ما بُني على المجزرة لن يتوقف بتوقف العمل الحربي المباشر بل سيمتد إلى ما بعدها ويفخخه بمفاهيمها ومعناها وسيكون استمرارًا لها في الميادين كافة.
الأقصى في هذا المقام لا يصبح موجودًا في فلسطين بقدر ما هو موجود في الذاكرة وعلى لائحة اليونسكو للتراث، والدفاع عنه سهل وغير مكلف ولا يتطلب الانتقال إلى الفعل بل يتيح تمكين الجمود وتسييل المجزرة.
لذا، قد يكون ذلك السلوك المتطرف المقصود الذي يلجأ إليه بن غفير منسجمًا مع المواقف المتجاهلة للمجازر ويصب في خانة دعمها، إذ إن فكرة الإهانة التي تم تعميمها كموقف شائع ورسمي تعني إدخال المسألة في دائرة الاستهلاك وتفريغها من المعنى، وصناعة مؤشر تعاطف تُقاس على أساسه العلاقة بالشأن الفلسطيني على طريقة السلطات ووفقًا لاعتباراتها.
من هنا، فإن ذلك الرد على إهانات بن غفير لا يستبدل الردود الدبلوماسية والسياسية الممكنة أو العسكرية الخيالية والمستحيلة، ولكنه يمحو المسألة بالكامل بحيث إنه لا مجزرة تحصل الآن في فلسطين، كما كانت الاستجابة العامة للمجزرة السورية تتضمن الإنكار التام والتأكيد على أنه لا شيء يحدث في سوريا.
على هذا المنوال، يدعم التطرف الإسرائيلي تطرف التجاهل والإنكار ويتيح استكمال المجازر وتوسيعها وتوظيفها. لذا، قد يكون السؤال عن اليوم التالي ما بعد غزة أو ما بعد ما يجري في سوريا شاقًا ومؤلمًا، إذ إن ما بُني على المجزرة لن يتوقف بتوقف العمل الحربي المباشر بل سيمتد إلى ما بعدها ويفخخه بمفاهيمها ومعناها وسيكون استمرارًا لها في الميادين كافة. السلام الموعود والتسويات المنتظرة ليست سوى عنوان عريض للتطبيع مع المجازر وإحلال معناها في كل شيء.
المصدر: تلفزيون سوريا
أين الضمير العالمي؟ أين حماة حقوق الإنسان والمؤتمنين على القرارات والمواثيق الأممية؟ لقد مر الدم السوري خفيفًا على ضمائرهم، وها هو الدم الفلسطيني يفشل في أن يحل في واجهة الأحداث، تصريحات الوزير الصهي.وني المتطرف “بن غفير” بحق القدس والمسجد الأقصى أيضاً مرت مرور الكرام على زعماء الأنظمة العربية والإسلامية، هل نحن بعصر الخنوع لهذه الأنظمة؟.