نشطت التحركات التركية تجاه العراق خلال الأشهر الأخيرة، على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري، وتُوّجت هذه التحركات عبر الإعلان عن توقيع اتفاقيات ضمن “الإطار الاستراتيجي” بين بغداد وأنقرة، في الوقت الذي نفذت فيه الأخيرة توغلًا ضمن مدينة دهوك العراقية خلال تموز الماضي.
الإعلان عن توقيع الاتفاقيات جاء في وقت حرج بالنسبة لـ”الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي انخرطت في مواجهات عسكرية ضد قوات رديفة تابعة للنظام السوري خلال الأسبوع الماضي، على رأسها “قوات العشائر العربية”.
وفي آذار الماضي، أجرى مسؤولون أتراك مباحثات في بغداد مع مسؤولين عراقيين.
وترأس الوفد التركي حينها، وزير الخارجية، هاكان فيدان، إلى جانب رئيس جهاز الاستخبارات، إبراهيم كالن، يرافقهما وزير الدفاع ووكيل وزارة الداخلية.
فيما حضر من الجانب العراقي كل من وزير الخارجية، فؤاد حسين، ووزير الدفاع ومستشار الأمن القومي ورئيس “هيئة الحشد الشعبي”، ووكيل جهاز المخابرات، ووزير داخلية كردستان العراق.
تضمنت المباحثات حينها قضايا أمنية تتعلق بشكل مباشر بحزب “العمال الكردستاني” (PKK)، الذي تضعه أنقرة على قوائم الإرهاب، ثم صدر بيان عن وزارة الخارجية العراقية حمل تأكيدًا على أن التنظيم يمثل تهديدًا لكل من البلدين.
وفي نيسان الماضي، زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العراق، ووقع 27 اتفاقية.
وفي 15 من آب الحالي، قام وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، بزيارة إلى أنقرة لتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بما في ذلك جوانبها الأمنية.
للوهلة الأولى تبدو المباحثات والبيانات شأنًا عراقيًا- تركيًا، لكن العلاقات التي تجمع حزب “العمال” مع “قسد” وتلقيها ضربات جوية تركية متكررة، والاتهامات الموجهة لها، توحي أن تحرك أنقرة، إلى جانب ما تراه “أمنًا قوميًا”، يهدف كذلك لحصار “الإدارة الذاتية” ومحاولة قطع سبل الإمداد إليها عبر البوابة العراقية.
وستحمل هذه التحركات التركية، حال نجاحها، تأثيرًا على “الإدارة الذاتية” و”قسد” بطبيعة الحال، وفق باحثين التقتهم عنب بلدي.
إلا أن هذه التحركات قد تصطدم بعوامل داخلية عراقية تتسبب بعرقلتها أيضًا.
أنقرة تهدف لحصار “الإدارة الذاتية”
منذ إنجاز عمليتي “نبع السلام” و”غصن الزيتون” العسكريتين في الأراضي السورية من قبل تركيا في 2018 و2019، كرر المسؤولون الأتراك تهديداتهم بعملية عسكرية ثالثة تستهدف المناطق التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” شمال شرقي سوريا.
لعبت الظروف الداخلية والإقليمية وكذلك الدولية، وتعقيدات الملف السوري، دورًا مهمًا في تأجيل العملية التي سبق وصرّحت أنقرة بأنها جاهزة لتنفيذها.
ومع تكرار التصريحات، استمرت أنقرة بتوجيه ضربات جوية، أكبرها في نهاية 2023، بالإضافة إلى إعلانات متكررة عن استهداف قادة في حزب “العمال” في سوريا، آخرها في حزيران الماضي، مع إعلان جهاز الاستخبارات التركي عن “تحييد” مسؤول منطقة الجزيرة في الحزب، علي دينتشر، الملقب بـ”أورهان بينغول”.
ويبدو أن أنقرة تحاول أن تجد طرقًا أخرى لتضييق الخناق على “قسد”، عبر اتفاقيات أمنية مع حكومة بغداد الاتحادية، وكذلك عبر علاقاتها مع رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني.
الباحث في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ، يرى في حديث لعنب بلدي أن التحركات التركية سيكون لها تأثيرها، خاصة مع التنسيق الأمني والعسكري المتزايد بين تركيا والحكومة العراقية، وكذلك مع حكومة إقليم كردستان.
وتتركز الآثار المتوقعة بالأمور اللوجستية، وكذلك بالملفات الاقتصادية والأمنية أكثر من العسكرية، وفق شواخ، مشيرًا إلى تركّز هذا التأثير على حزب “العمال” ومصالحه في شمال شرقي سوريا.
وأضاف أن هذه الآثار قد تتمثل بالتنسيق الأمني، الذي تنتج عنه زيادة في الإجراءات الأمنية أو إعادة ضبط انتشار حزب “العمال الكردستاني” أو الميليشيات التابعة له في المناطق الحدودية أو داخل العراق، في مناطق سنجار وجوارها، بحسب شواخ.
وسيؤدي هذا التواصل في حال ضبطه أو إنهائه إلى قطع الجزء الأكبر من طريق الإمداد والتواصل بين أذرع حزب “العمال” في شمالي العراق وشمال شرقي سوريا، باعتبار أن هذه المنطقة هي منطقة العبور الرئيسة للأسلحة وتحرك القيادات والعناصر وتهريب النفط من وإلى شمالي العراق.
وتنفي “قسد” بشكل مستمر أي علاقة لها بحزب “العمال”، لكن هناك مؤشرات تظهر تقاربًا مع الحزب المنتشر بين سوريا والعراق وإيران وتركيا.
وسبق أن اعتبر قائد “قسد”، مظلوم عبدي، في مقابلة أجراها موقع “المونيتور”، في 2023، أن الحديث عن علاقة “قسد” بحزب “العمال” هو “أعذار” تستخدمها تركيا لشن هجمات في سوريا.
وأضاف حينها أن “قسد” مكوّنة من “كرد سوريين” يريدون بناء علاقة “سلمية” مع تركيا.
مدير مركز “جيواستراتيجي للأبحاث” (مقره ألمانيا)، إبراهيم كابان، يرى أن تركيا لديها استراتيجية “دفع الحصار” حول “الإدارة الذاتية”.
وأوضح في إجابته عن أسئلة عنب بلدي، أن التدخل التركي في إقليم كردستان العراق وتعميق العلاقات معه ومع حكومة بغداد، ومحاولة زيادة القواعد العسكرية التركية شمالي العراق وفي مناطق أخرى كالموصل، وحتى الضربات الجوية التي طالت مواقع عراقية متاخمة لمناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، تأتي في السياق نفسه.
تعتقد أنقرة أن هذه الجهة تسهم بشكل كبير بفك الحصار عن “قسد”، بحكم أن العلاقة بين “قسد” والنظام ليست جيدة، والحدود مغلقة مع تركيا، وبالتالي فإن المنفذ الوحيد هو العراق.
ويعتبر معبر “سيمالكا- فيشخابور” الحدودي المنفذ الوحيد بين شمال شرقي سوريا (مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”) فيما يخص التبادل الإنساني والتجاري وإيصال الأدوية ومعالجة المرضى، وخاصة مرضى السرطان والحروق، وسفر المواطنين إلى الخارج.
ويعتبر معبر “الوليد” الحدودي مغلقًا أمام الحركة التجارية بالمنطقة، في حين تستخدمه قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا لنقل معدات عسكرية ولوجستية نحو قواعدها في سوريا، ويتم استخدامه في حالات محددة.
عوامل الفشل والنجاح
تمتلك أنقرة أوراقًا لا يمكن الاستهانة بها لتنفيذ ما تريده باتجاه “الإدارة الذاتية”، سواء عسكريًا وعبر التهديد الدائم بتنفيذ العمليات العسكرية، أو عبر ملفات أخرى تجمعها مع العراق، على رأسها ملف المياه، وكذلك ملفات اقتصادية وتنموية.
لكن هذه الأوراق تصطدم بدورها بعاملين رئيسين، الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية وقواعدها العسكرية الموجودة في العراق وشمال شرقي سوريا، بالإضافة إلى مصالحها مع “قسد”.
أما الجانب الآخر فيتعلق بوجهات نظر الأحزاب الكردية الموجودة في إقليم كردستان العراق، التي قد لا تتفق مع السياسة التي ستتبعها بغداد أو حكومة الإقليم نفسه، وعلى رأسها حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” وزعيمه، بافل طالباني، الذي يملك علاقات جيدة مع “قسد”.
وسبق لطالباني أن زار مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” نهاية عام 2022، والتقى بمظلوم عبدي، كما أنه يملك علاقات جيدة مع قوات التحالف.
وفق كابان، فإن من المستبعد أن يصل الأمر إلى مرحلة القطيعة بين “قسد” وإقليم كردستان العراق، لأسباب اقتصادية أو أمنية وكذلك عسكرية.
وتتخذ الولايات المتحدة من إقليم كردستان العراق مركزًا لانتشارها في العراق وسوريا، كما أن التواصل مع “قسد” يتم من هناك، وبالتالي عملية المحاصرة لن تنجح حتى ولو سعت بغداد، بسبب الرفض الأمريكي المتوقع، أو لغياب التوافق عليها بين مختلف الحركات السياسية داخل العراق، التي يرى بعضها وجوب استمرار العلاقات مع “قسد”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لدى بعضها علاقات وتنسيقًا عسكريًا معها لمواجهة تنظيم “الدولة”.
وأضاف أن العلاقات تختلف بين المكونات الكردية في الإقليم و”قسد”، فالأخيرة ضمن غرفة عمليات أمريكية واحدة مع قوات “البيشمركة” التي تشكّل القوة العسكرية في الإقليم، وهناك اتفاق أمريكي كردي- كردي لملاحقة متطرفين.
فيما يرى الباحث أنس شواخ أن التحركات التركية والانتشار داخل مناطق في شمالي العراق يأتي بتنسيق كامل مع الحكومة الاتحادية العراقية، ومع حكومة كردستان العراق بقيادة البارزاني، هنا يأتي موقف حزب “الاتحاد الوطني الكردي” بقيادة الطالباني الذي يملك علاقة جيدة مع حزب “العمال الكردستاني”، وسبق لطالباني أن زار مناطق “قسد” والتقى بمظلوم عبدي قبل عامين بإشراف قوات التحالف، ونفذوا عمليات مشتركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وبالتالي، بحسب شواخ، فإن مستوى التنسيق عالٍ بين الطرفين (“قسد”- طالباني)، لكن تصنيف حزب “العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية الآن أصبح يمثل تهديدًا لأي حزب أو قوى داخل العراق تحاول التنسيق أو دعم الحزب، وحتى الآن لا يوجد تحرك مضاد.
المصدر: عنب بلدي