أثارت المطالب الثلاثة، التي طرحتها تركيا على لسان وزير دفاعها مؤخراً قبل التفاوض على الانسحاب العسكري التركي من سوريا لا سيما المتعلقة بوضع دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة، تساؤلات حول دوافعها وما إذا كانت تعكس تراجعاً في رغبة أنقرة بتطبيع العلاقات مع النظام. لكنّ حقيقة أن هذه المطالب سبق أن عبّر عنها بشكل عام المسؤولون الأتراك في أكثر من مناسبة وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي قال إن هدف بلاده من التطبيع إيجاد بيئة مناسبة لإحلال السلام في سوريا وتسوية الصراع، تُشير إلى أن الأهمية التي تكتسبها هذه المطالب تكمن أولاً في أنها حدّدت بشكل واضح العناصر الرئيسية في المقاربة التركية للتسوية السياسية للصراع، والتي تنسجم مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وثانياً في تقديمها كشروط ينبغي تحقيقها قبل التفاوض على مسألة الانسحاب، وثالثاً في توقيت إثارتها.
مع ذلك، تبرز نقطة مهمة في هذه المطالب وهي أن تركيا لا تُقدمها كشروط للشروع في عملية التطبيع مع دمشق، بل كشروط للتفاوض على مسألة الانسحاب. لكنّ حقيقة أن هذه المسألة تُشكل العقبة الأكثر تعقيداً التي تواجه مشروع التطبيع، تجعل من الصعب إطلاق هذه العملية من دون التوافق حولها. وهنا يظهر اختلاف الأولويات بين تركيا والنظام حول الملفات التي ينبغي التوافق عليها أولاً قبل المضي قدماً في هذا المسار. بينما يُرهن الأسد الشروع في عملية التطبيع بالتوافق على المبادئ العريضة له بما في ذلك ملف الوجود العسكري التركي، تتمثل أولويات أنقرة في التعاون في مكافحة مشروع الحكم الذاتي لوحدات حماية الشعب الكردية كمقدمة للتوصل إلى ترتيب أمني جديد يُحدد أطر العلاقات المستقبلية، وإعادة اللاجئين السوريين، وإيجاد بيئة لإطلاق مسار التسوية السياسية للصراع، على أن يكون التفاوض على ملف الانسحاب في المراحل الأخيرة من مشروع التطبيع. وبهذا المعنى، فإن التصور التركي لمعالجة ملف الانسحاب يتطلب توفر الظروف الكاملة له وهي لا تقتصر على معالجة الهواجس الأمنية، بل تشمل ملفات التسوية السياسية واللاجئين السوريين والوجود العسكري للولايات المتحدة وإيران على وجه الخصوص.
وفيما يتعلق بتوقيت إثارة هذه المطالب، فإنه مُصمم للرد على السقف التفاوضي المرتفع الذي وضعه الأسد مقابل الدخول في عملية التطبيع خصوصاً أن الأخير رهن عودة طبيعية للعلاقات مع تركيا بالعودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل اندلاع الحرب في عام 2011، بمعنى تخلي أنقرة عن تمسكها بتسوية سياسية للصراع على أساس القرار الأممي 2254.
وهنا تظهر رسالتين أساسيتين أرادت تركيا إرسالهما إلى الأسد من خلال هذه المطالب. الأولى، أنها مُستعدة للشروع في عملية التطبيع إذا كان سيعود بالفوائد المتصورة عليها ولا يمس بجوهر مقاربتها للتسوية السياسية للصراع والكيفية التي تُريد بها معالجة ملف وجودها العسكري. والثانية، أن اندفاعها نحو التطبيع لا تنم عن ضُعف موقفها وبأن إصرار الأسد على أولوية معالجة ملف الانسحاب لن يؤدي سوى إلى تقويض فرصة نادرة لإعادة تشكيل العلاقات التركية السورية ولإيجاد مسار واقعي يُمكن أن يؤدي إلى معالجة متوازنة وشاملة للصراع في سوريا. وتستمد أنقرة قوتها في مقاربة مشروع التطبيع من اعتقادها بأن حاجة النظام إلى التطبيع للحصول على مكاسبه المتصورة من حيث تعزيز كسر عزلته الخارجية ومصلحته في تقويض مشروع الحكم الذاتي الكردي والمزايا الاقتصادية وغيرها لا تقل عن حاجتها إلى التطبيع.
وحتى في الوقت الذي تظهر فيه الصعوبات الكبيرة أمام إمكانية التوافق بين أنقرة ودمشق لتدشين مشروع التطبيع، فإن الطرفين يُظهران اهتماماً باستئناف مسار التفاوض. وبالنسبة لتركيا، فإن رغبتها في التطبيع أكبر من مُجرد مناورة تكتيكية لتعزيز موقفها في الصراع مع الوحدات الكردية. ويعكس ذلك أمرين مُهمين في مسار التطبيع. الأول، أن النظام يولي أهمية للحصول على الفوائد المتصورة للشروع في عملية التطبيع حتى لو لم يُلبي على الفور تطلّعاته بخصوص معالجة ملف الوجود التركي. ويُعزز ذلك تخلي النظام عن شرط وضع جدول زمني للانسحاب قبل العودة إلى المفاوضات. والثاني، أن أنقرة لا تزال تُحافظ على هامش لتعظيم فرص تدشين مشروع التطبيع.
إن الظروف التي تُطالب أنقرة بتوفرها لمعالجة ملف وجودها العسكري تبدو موضوعية إلى حد كبير خصوصاً أن قضايا التسوية السياسية ومعالجة ملف اللاجئين والوجود العسكري الأميركي والإيراني هي قضايا لا يُمكن تصنيفها بأي حال على أنها شأن داخلي سوري لأن الأبعاد الخارجية فيها تطغى بشكل كبير على الأبعاد المحلية للصراع.
لأن اندفاعة أردوغان مؤخراً في إظهار رغبته بلقاء الأسد وتطبيع العلاقات فُهمت من قبل الأخير على أن تركيا تنظر إلى التطبيع كغاية وليست كوسيلة لإنهاء الصراع في سوريا، فإن تأكيد أنقرة على تمسكها بالمبادئ العريضة لإنهاء الصراع ومعالجة ملف وجودها العسكري، كان ضرورياً لموازنة سياستها الجديدة في سوريا وتوضيح الحدود التي يُمكن أن تصلها في التنازلات مقابل الشروع في التطبيع وفي أثناء هذه العملية. ومع إظهار الطرفين استعدادهما للعودة إلى مسار التفاوض، فإن استئناف هذا المسار في المستقبل سيُحدد بالفعل الفرص المتاحة لتدشين مشروع التطبيع في ظل السقوف التفاوضية المرتفعة التي أظهرها الجانبان.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا