لم تغب صورة الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عن بيوت سوريين عديدين ومحلاتهم خلال حرب تمّوز (2006). اعتبروا الرجل أيقونةً للمقاومة. كانت خطاباته تجمّع المناهضين لإسرائيل من شعوب المنطقة العربية، إلى حين وصول موجة ثورات الربيع العربي سورية في عام 2011، فاختلفت رؤية السوريين إلى مفهوم المقاومة في لبنان، وأخذ حزب الله موقفاً مُؤيّداً للنظام السوريّ ضدّ الاحتجاجات في الشارع السوري، وفضّل ولاءاته السياسية والاستراتيجية على حساب دعم السوريين، الذين طالما اعتبروا فكر المقاومة ثوريّاً ضدّ الظُلم بالمطلق.
وجّه نصر الله وقتئذ تحية إلى “سورية الأسد”، ثمَّ بدأت قوّات حزب الله تدخل تباعاً في حرب النظام ضدّ الثورة السورية. قاتل عناصر الحزب إلى جانب فصائل شيعيّة مُتعدّدة محسوبة على إيران، رفعوا أعلاماً طائفيّةً عمّقت الفوارق في انتماءات المجتمع السوريّ منذ البداية. وأصبحت معركة “المقاومة” (بحسب سوريين) مزعومة لقمع الثورة السورية، وباتت الطريق إلى القدس تمرّ من دمشق وريفها وحلب وحمص وحماة… إلخ، لقد تساوت قيمة نصر الله وحزبه مع الفصائل الموالية للنظام السوريّ وجيشه؛ بفارقٍ طفيفٍ حوّلهم مُرتزقةً أجانب في سورية. أزال السوريون صور نصر الله، بعد أن حسم موقفه بدعم نظام الأسد، أصبح حزبه منبوذاً في سورية، وكلّما كانت إسرائيل تستهدف مواقع لإيران في أرضٍ سورية، كان أغلب جمهور المُعارَضة السورية يشمتون، وكأنّ الحال قد دفع العدو الإسرائيليّ لأن يكون أداةَ تصفيةِ حساب رخيصةً، مع الحزب والفصائل الموالية لإيران، وهذا، في حدّ ذاته، شكّل بذرة الانقسام التي انتشرت بين السوريين في الداخل والخارج، وبين كلّ من يدعم تمدّد إيران في المنطقة.
باستثناء التابعين طائفيّاً لإيران في سورية، لم يعد لحزب الله أيّ جماهيرية بين السوريين منذ سنوات، بغضّ النظر عن موقف بعضهم من تعثّرات الثورة السورية، وصراع الأيديولوجيا فيها، تمزّقت صورة الحزب المُقاوِم، بعد أن أصبح أداةً لقتل السوريين تمتثل لرغبة إيران. سجّلت الذاكرة السورية في إضبارة قهرها جرائم النظام في حقّ مُعارضيه، وإلى جانبها انتهاكات حزب الله. سأل بعضٌ عن سرّ تلك العداوة ضدّ معارضي الأسد من الحزب، هل السبب هو الاتفاق التاريخي الإيراني مع الأسد الأب؛ والقائم في التقارب الطائفيّ بين إيران وعائلة الأسد؟ وبالتالي، كلّ عدوٍ لإيران هو عدوٌ لحزب الله، بغض النظر عن المواقف الجماهيريّة المحقّة للثورات الجديدة أمام غطاء المقاومة وسلوكها الداخلي؟… شيطن إعلام حزب الله المُعارَضة السوريّة سياسياً وعسكرياً؛ بأوصاف ذات طابع إيراني منها “وكلاء أميركا” في المنطقة. لكنّ هؤلاء قبل أن يصبحوا “وكلاء” لم ينظروا إلى عقيدة الحزب الدينيّة، كانوا وقتاً طويلاً قد تجاوزوا اختلاف الأيديولوجية المُقاوِمة، وخطّها النابع من فكر ديني صرف.
كان الجميع يفكر في النتيجة؛ مقاومة إسرائيل ومشروعها الاستيطانيّ، إلا أنّ صعود التقديس لمحور إيران في المنطقة وسياساتها مع الغرب، واستخدام أدبيات الإعلام، بحسب ما ترد في خطاب إيران ضدّ إسرائيل والولايات المتّحدة، جعل السوريين يجزمون أيضاً بتصنيف حزب الله ذراعاً عسكرية؛ أي “وكلاء” لإيران أيضاً، ينقل ويحرّك عناصره إلى مناطق مختلفة لتنفيذ أجندة إيران، سواء كان الهدف إسرائيل أو المناهضين للمشروع الإيرانيّ، وهذا الخلط العجيب أفقد الحزب كثيراً من شعبيته وقيمته في اختبار الثورة السورية.
لقد تضامن السوريون مع حركات التحرّر المُقاوِمَة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، إلى جانب الحفاظ على قضية تحرّرهم من النظام السوري. لا شكّ أنّ هناك من دعم التطبيع مع إسرائيل وأصدقائها (ولو عبر وسطاء دبلوماسيين)، لكنّ الكارثة أن عمق الانقسام وصل إلى منطقة جعلتهم يفاضلون بين مقاومة إسرائيل، وهذا مسيطر عليه من إيران كلّياً في المنطقة، وتأييد إيران بما لديها من مخطّطات لضرب استقرار المنطقة، ومدّ نفوذها إلى المتوسّط عبر لبنان، والتأثير المستمر في مراكز صنع القرار في دمشق، وبيروت، وبغداد، وغزّة.
ذلك التضامن السوريّ مع المقاومة يعاني اليوم من تصدّع وقلّة ثقة سياسية بسبب المحور الإيرانيّ، والذي ما زال يدعم حركة حماس المعاكسة لحزب الله بموقفها من الثورة السورية، فهي لم تُؤيّد الأسد في قتل السوريين، لم تشارك في الحملات العسكرية التي قادتها إيران ضدّ المدن السورية وأهلها من المُعارِضين. وبالتالي، احتفظ عدد لا بأس بهم من السوريين بالاحترام لحركة حماس، دعموا قضيتها جزءاً من المقاومة الفلسطينية ضدّ إسرائيل؛ العدو التاريخي للسوريين في المنطقة. لقد شكّلت المواقف من الثورة السورية بالنسبة للسوريين، مفصلاً مصيرياً في قراءة الأحداث السياسية في المنطقة، وبات تناول الكيانات والأشخاص والدول بالنسبة إليهم مسألةً أخلاقيةً أمام التاريخ، ولا تنفصل عن تسجيل مواقف أولئك تجاه نظام الأسد، والمُعارَضة، واللاجئين السوريين.
وجاء اغتيالُ اسرائيل رئيسَ المكتب السياسيّ لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، الأسبوع الماضي، ضربةً إعلاميةً مدويّةً، أصابت السوريين بالاضطراب لجهة قراءة أبعاد الحدث إبّان تصعيد خطير متوقّع في المنطقة، لا سيّما وأن هذا الاغتيال كان بعد ساعات من استهداف إسرائيل القائدَ العسكريّ الكبير في حزب الله، فؤاد شكر، في حارة حريك جنوب العاصمة اللبنانية بيروت. اغتيال لزعيم من “حماس”، الداعمة للثورة السورية، وآخر لزعيم من حزب الله، الداعم لنظام الأسد، لكنّ الحركتين كلتيهما تعملان في خطوط نضالية مشهود لها ضدّ إسرائيل، مع امتيازات للأولى بأنّها لا تنشط سوى في الأراضي الفلسطينية، وهي أكثر قرباً من القضية الفلسطينية، أمّا الأخرى فتنقل نشاطها بين دول عدّة.
اغتيالان جعلا من الانقسام السوريّ أكثر عبثيّة بخصوص فهم المقاومة، مع بروز محور إيران، اللّاعب الأكثر غموضاً الآن، والذي يعاني جهازه الأمني في المنطقة من اختراقات كبيرة. لا سيّما أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين كان حذّر بشّار الأسد من تصعيد سوف يُؤثّر بشكل مباشر في سورية. قد يكون لدى موسكو معلومات دقيقة بحكم تنسيقها الأمني في منطقة نفوذها في الشرق الأوسط، وعلاقتها بإسرائيل، ولعلّ مُؤشّرات تفيد بسلسلة استهدافات ترفع حدّة التوتّر والاضطراب الأمنيّ والاقتصاديّ في المنطقة، وتأخر الاستقرار إقليمياً. راقب السوريون ذلك كلّه، واعتبروا أنّ بوتين يحاول حماية الأسد في ظلّ تحرّك أمني سوف يقضي ربّما على الوجود الإيرانيّ في المنطقة، من طريق الاغتيالات، بعد بدء التقارب التركيّ مع دمشق، واعتبروا أنّ وجود هنيّة في طهران يدينه، رغم أن “حماس” لم تكن يوماً في المعارك السورية، ولا مصلحة لديها في خسارة حلفاء ومموّلين وداعمين للمقاومة في فلسطين.
وأخيراً، لا بدّ من الانتباه إلى موقف نظام الأسد من اغتيال إسماعيل هنيّة، الذي ركّز في بيانه على “انتهاك السيادة الإيرانية”، وليس على استهداف قائد فلسطيني يقاوم إسرائيل، العدو المزعوم للأسد، صديق روسيا، التي تخطرها إسرائيل، عادة، قبل قصف المواقع الإيرانية في سورية (!)
المصدر: العربي الجديد