الاغتيالات الإسرائيلية في غزّة قد تكون الأصعب

باسل خلف

بعد محاولة التسلّل الفاشلة لـ15 عنصراً وضابطاً من وحدة هيئة الأركان العامّة الإسرائيلية، المعروفة بـ”سيريت ماتكال”، إلى قطاع غزّة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، أعلنت كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام أنّها عثرت على “كنز استخباراتي ظنّ الاحتلال أنّه دمَّره تحت كثافة النيران” في تلك الليلة الصعبة. مرّت 60 يوماً بين الحدث وإعلان كتائب القسّام تفاصيلَ ما سبقه وما تلاه.
دُعيتُ من بين عدد قليل من مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية بعد ذلك، للقاء مسؤول بارز في المقاومة الفلسطينية. وصلت إلى المكان غربي مدينة غزّة. وفي إجراءات أمنية مُشدّدة دخلنا القاعة من دون هواتفنا النقّالة بطلب من الحُرّاس. يدخل قائد لواء وسط قطاع غزّة، والمسؤول في استخبارات كتائب القسّام في تلك المرحلة، أيمن نوفل، حاملاً حقيبة سوداءَ صغيرة، يرافقه مسؤول رفيع في جهاز الأمن الداخلي غير مُلتَحٍ، ويرتدي بذلة رسمية من دون ربطة عنق، عرفتُ لاحقاً أنّه كان بين المُعتقلين في سجون الاحتلال، خلال مهاجمة الأخير مرفقاً في مدينة غزّة في مارس/ آذار الماضي. يجيب نوفل، الرجل المعروف في كتائب القسّام بسرّيته، بأنّ الكتائب اتّبعت نمطاً عسكرياً مُختلفاً، في أثناء محاولة التسلّل الفاشلة وبعدها، باعتبارها محطّة فاصلة في أمن القطاع الذي تديره حركة حماس.

أقر نوفل بأنّ عقلية الكتائب العسكرية تغيّرت بعد إجراء مراجعات منذ اغتيال القائد العام أحمد الجعبري (شتاء عام 2012)، حينما قصفت المقاومة تلّ أبيب بسرعة ردّاً على الاغتيال، في إشارة منه إلى ضرورة إعطاء مساحة للعمل الأمني الميداني، وفهم سياق الاغتيال وحيثياته قبل الردّ. كان الرجل يتحدّث، بينما أستذكِرُ ما رأيتُه صباح اليوم التالي للعملية، حينما وصلنا إلى المكان للتغطية الصحافية، بعد ليلة قضيتُها في مستشفى غزّة الأوروبي القريب من المكان. جَمع أشخاص، لم نكن نعرفهم، ما تبقّى من حطام وقطع وبقايا في مسرح الحدث، في منطقة حدودية زراعية مفتوحة، تحوّلت إلى ما يشبه ساحة حربٍ شرقي مدينة خانيونس، جنوب قطاع غزّة، لاحقاً، قالت “القسّام” إنّها حللتها، واستنتجت منها تفاصيل الحدث، والهدف الإسرائيلي، الذي كان يقصد زراعة أجهزة تجسّس لاختراق دائرة الاتصالات السرّية الخاصّة بالكتائب.
يظهر ممّا سبق كلّه اعتماد المقاومة سياسة المراجعات الداخلية في مواجهة أساليب الاحتلال وأدواته الأمنية، فيما كانت تصفه بـ”حرب الأدمغة”. ومع مسلسل آخر اغتيالات في كلٍّ من لبنان وإيران وغزّة، وقراءة السلوك الإسرائيلي، وحيثيات كلّ عملية اغتيال على حِدَة، نرى أنّ الاحتلال يواجه في غزّة مصاعب أكبر بكثير، في الوصول إلى أي شخصية منها، من أي مكان آخر.
استهداف صالح العاروري وفؤاد شُكر في معاقل حزب الله في لبنان، واستهداف إسماعيل هنيّة في العمق الأمني الإيراني، يعكسان حالة اختراق واضحة، وقدرة عسكرية استخباراتية إسرائيلية. صحيحٌ أنّ إسرائيل وصلت إلي أيمن نوفل في أول عملية اغتيال لمسؤول في المجلس العسكري لـ”القسّام”، في بداية الحرب، رغم سريّة تحرّكاته وتحوّطه الأمني، ثم إلى كلٍّ من قائد لواء الشمال أحمد الغندور، ووسام فرحات، في غزّة، وغازي أبو طماعة في الوسطى، ورافع سلامة في خانيونس، وهناك حديث عن إصابة أبو أنس شبانة في استهداف في رفح، وغيرهم من قادة الجهاد الإسلامي البارزين أيضاً، والتكتم على مصير محمّد الضيف ومروان عيسى، وغيرهم من فئة الأسرى المُحرّرين، الذين كانت لهم مواقع تنظيمية عسكرية مُهمّة، عرفنا مصير بعضهم، وتُخفِي “القسّام” مصير آخرين منهم، إلا أن هذه الشخصيات كانت تُشرف على عمل عسكري ميداني في الأرض، ما يعني أنّ اتصالاتها مستمرّة مع الميدان، ولو في حدودها الدنيا، ما قد يُوفّر فرصَ اختراقات من نوع ما، أمنية واستخباراتية وتكنولوجية، قادت إسرائيل إلى مكان وجودهم. ولدينا في حالة اغتيال ثلاثة من قادة “القسّام” البارزين في رفح في حرب صيف عام 2014 مثالاً (رائد العطار، ومحمّد أبو شمّالة، ومحمّد برهوم)، إذ توصّلت الأجهزة الأمنية إلى مُتخابِر تعاون مع الاحتلال، كشف مكان القيادات، ثمّ اغتالهم الطيران الحربي الإسرائيلي.
وبالعودة إلى أكثر وحدة في “القسّام” أهمّية، هي “وحدة الظلّ”، المنوط بها تأمين الأسرى الإسرائيليين في قبضة المقاومة. ومن واقع الميدان، شهدت تفاصيل محاولة تحرير أسير إسرائيلي فاشلة في مخيّم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزّة خلال الحرب، وزرت المكان، وتجوّلت فيه مشياً على الأقدام. أظهرت الوحدة قدرتها في حينه على المناورة والتنبؤ بالسلوك الإسرائيلي، الذي جاء هذه المرة عبر قوّة تركب سيّارة إسعاف خدماتية، وهو أمرٌ مُتوقّع، وسلوكٌ مُكرَّرٌ للاحتلال. ورغم كثافة النيران، لم تستطع الوحدة الإسرائيلية الخاصّة تخليص الأسير، بل تسبّبت في مقتله. لكنّ إسرائيل لم تتوقّف عن المناورة العسكرية. نجحت في رفح، وفي سوق النصيرات تالياً، في تخليص أسرى أحياء، وانتشال جثث أسرى من مواقع توغّلت فيها في جباليا، وخانيونس، وغزّة المدينة.
يضع الاحتلال الأخوين السنوار هدفاً مُعلناً منذ بداية الحرب، يشرف محمّد السنوار، صاحب الشخصية الغامضة، على عمل وحدة الظلّ، وحراسة من تبقّى من قادة الحركة السياسيين والعسكريين في غزّة، بينما عُرف عن شقيقه يحيى السنوار إفراطه في الحسّ الأمني في آخر سنواته. سمعت كثيراً عن هذا الأمر من عناصر في “حماس” و”القسّام”، ومن مصادر أخرى. استطاعت المقاومة المناورة هذا الوقت كلّه، والحفاظ على سرّية أماكن وجود الأسرى، رغم عددهم الكبير نسبياً، أحياءً وأمواتاً، تخلّلها قصف بأطنان المتفجرات، مع تقديرات بكلفة مرتفعة للحرب، ولحجم الخسارة الكبيرة، التي لحقت (وتلحق) بالمدنيين في غزّة. وبينما يكتوي الناس في القطاع بنار الحرب، وتُهدّد إسرائيل بالوصول إلى الأخوين السنوار، وأعضاء المجلس العسكري، والقضاء على عناصر “حماس” وقادتها الميدانيين، والمراهنة على تحرير ما تبقّى من الأسرى بالقوّة، وليس بصفقة تبادل فقط… في خضّم هذا كلّه، تعمل وحدة الظلّ، فوق الأرض وتحتها، لإفشال هذه الأهداف.

وتعرّضت الأجهزة الأمنية الحكومية في غزّة لضربات أحدثت اختلالاً في منظومة الأمن في مستوى الخدمات المدنية، وتنامى ذلك مع مرور أيّام الحرب، لاحظته خلال مائتي يوم من التغطية، ويلاحظه الناس يومياً في مناطق القطاع، خاصّة المُكتظّة بالنازحين. بينما تكافح أجهزة أمن “القسّام” للعمل على الأرض، لجهة التنسيق مع فصائل المقاومة، وتهيئة مواقع القتال للعناصر، بما يتاح من أدوات، في ظروف مُعقّدة للغاية.
تبقى وحدة الظلّ، التي لا يُعرَف تعداد عناصرها ومصيرهم، حجر الزاوية في هذه المرحلة بالنسبة إلى “القسّام”، فقدرة عناصرها على المناورة تعني الحفاظ على هيكل الكتائب متماسكاً، رغم الضربات التي لا تتوقّف يومياً، بينما الوصول إلى الأخوين السنوار تحديداً، ومن معهم من أسرى إسرائيليين في قبضة المقاومة (وهو سيناريو صعب لكنّه ليس مستحيلاً)، يعني ضرب الكتائب ضربة موجعة ستُؤثّر فيها سنوات طويلة، وتؤثّر قبل ذلك في معنويات العناصر التي تقاتل على الأرض، وفي تماسكهم في الحرب، التي ما زالت مستمرّة منذ أكثر من 300 يوم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى