ليس مُستغرباً أن يصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المشهد السياسي في بلاده بالكارثي، في حديثه أمام أعضاء الكتلة البرلمانية الداعمة له ووزراء الحكومة، لكن المُستغرب محاولته تحميل بعض الشخصيات في داخل معسكره وخارجه مسؤولية ذلك، وتنصّله من المسؤولية الأساسية في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي، الذي نجم عن عدم اعترافه بأنّ معسكره الرئاسي خسر آخر انتخابات تشريعية دعا إليها في القرار الذي اتّخذه في التاسع من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، بعد الهزيمة التي ضربت تحالف الأحزاب الثلاثة المُؤيّدة له في الانتخابات الأوروبية. وكان المفترض بالرئيس ماكرون إسناد مهمّة تشكيل حكومة جديدة إلى الجبهة الشعبية الجديدة، باعتبارها الكتلة الفائزة بالانتخابات، لكنّه لم يفعل ذلك، الأمر الذي أفضى إلى دخول فرنسا في أزمة عميقة، لا أحد يعرف كيفية الخروج منها، ولا المدى الذي ستبلغه، أو الحدود التي ستقف عندها.
يراهن ماكرون على حصول خلافات داخل أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة، لذلك يضع شروطه، ويلعب على الوقت، ويماطل ويتمهّل، إذ يُعطيه الدستورُ الفرنسي الحقّ في تسمية رئيس الحكومة باعتباره (ماكرون) رئيسَ الجمهورية، ولا يُلزمه بمهلة مُحدّدة لاختياره، لكنّ العُرف الذي ساد فرنسا منذ نشأة الجمهورية الخامسة، هو أن يُوكل الرئيسُ مُهمّة تشكيل الحكومة إلى الحزب أو الكتلة الفائزة بالانتخابات التشريعية، أي إلى الجبهة الشعبية الجديدة، لكنّ ماكرون، ومعه قادة في المعسكر الرئاسي الداعم له، يرفضون العمل مع معسكر اليسار، وخصوصاً مع حزب فرنسا الأبيّة، وزعيمه جان لوك ميلانشون، بحُجّة أنّ الجبهة الشعبية الجديدة احتلّت المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية من أجل عرقلة وصول حزب التجمّع الوطني اليميني المُتطرّف إلى الحكم، حسبما قال رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، الذي حاول تبرير معارضته الشديدة لأن يتولّى معسكر اليسار تشكيل الحكومة المُقبلة، بالتذرّع بأنّ أيّ حكومة تقودها الجبهة الشعبية الجديدة “لا تتوافق مع الرغبة العميقة للفرنسيين”، واضعاً نفسه في موضع العرّاف.
الواضح أنّ ماكرون لا يريد العمل مع حكومة من اليسار على الوجه الخصوص، لذلك يعمد إلى الجمع بين اليسار واليمين المُتطرّف، ووضعهم في سلّة واحدة، كي يبرر وَضْعَه مُختلف الأعذار للحيلولة دون وصول اليسار إلى الحكم، ومطالبته “كل القوى السياسية التي ترى نفسها داخل المؤسّسات الجمهورية، أن تنخرط في حوار صادق ونزيه من أجل بناء أكثرية صلبة، ومتعددة بطبيعة الحال”، بما يعني تسويق تذرّعه بأنّه يريد “التمهّل بعض الوقت من أجل التوصل إلى تسويات بهدوء واحترام للجميع”، وذلك انطلاقاً من فرضيته التي تُفيد بأن “لا أحد فاز بالانتخابات التشريعية” التي أُجريت أخيراً، كي يضع معسكره الخاسر على قدم المساواة مع معسكر اليسار الفائز، بحُجَّة أنّه لم يُحقّق الأغلبية المطلقة (289 نائباً) في البرلمان الجديد.
لم يتوقّف ماكرون وقادة ائتلافه عن توجيه سهام نقدهم واعتراضاتهم على حزب فرنسا الأبيّة، وتركيزهم على زعيمه ميلانشون بشكل خاص، الذي يتّهمونه بالسعي لتحطيم أسس النظام الديمقراطي الفرنسي، وإثارة الفوضى، ومعاداة الساميّة، وسوى ذلك. واللافت أنّ تهمة معاداة الساميّة قلّما وُجّهت في فرنسا إلى حزب التجمّع الوطني، المعروف بجذوره الضاربة في النازيّة الجديدة، إضافة إلى أنّ مؤسّسه جون ماري لوبان كان يجاهر بمعاداته للساميّة، وحوكم ودين بها. في المقابل، يشهد تحالف اليسار صراعاً داخلياً على زعامته، في وقت تتواصل فيه المفاوضات داخل مختلف مكوّنات الجبهة الشعبية الجديدة للاتفاق على اسم المُرشّح لتولّي رئاسة الحكومة المُقبلة. وقد جرى تداول أسماء عديدة من مختلف الأحزاب المُشكِّلة للجبهة، التي يبدو أنّها تقترب من الاتفاق على اسم المُرشّح الذي ستطرحه لتولّي منصب رئيس الوزراء المُقبل. وفي حال طرحه سيتعرّض ماكرون لمزيد من الضغوط، التي ستضاف إلى سيل الانتقادات السياسية والشعبية التي وُجّهت إليه منذ قراره حلّ الجمعية الوطنية، في وقت تستعد فيه باريس لاستضافة الألعاب الأولمبية في 26 من يوليو/ تموز الجاري وحتّى مطلع سبتمبر/ أيلول المُقبل.
يشي واقع الحال في فرنسا بأنّ ماكرون لا يريد العمل مع قوى اليسار لأنّه يواجه مشكلة عويصة معه، فتحالف الجبهة الشعبية الجديدة يطالب بإلغاء قانون رفع سنّ التقاعد إلى 64 عاماً والعودة إلى سنّ 60، وهو القانون الذي عمل ماكرون جاهداً من أجله مع رئيسة حكومته السابقة إليزابيت بورن، ويعد التحالف برفع الحدّ الأدنى للرواتب إلى 1600 يورو، والعودة إلى 35 ساعة عمل أسبوعياً، ورفع القدرة الشرائية بتجميد أسعار السلع والمواد الاستهلاكية، وفرض ضرائب على الشركات الكبيرة وعلى الثروات الكُبرى، وهي أمور لا يوافق عليها ماكرون، الذي يصفه كثيرون من الفرنسيين بأنّه رئيس الأغنياء، ويُطبّق سياسات نيو ليبرالية تعتبرها أحزاب اليسار كارثية، ما يعني أنّ الكارثية التي تحدّث عنها ماكرون في المشهد السياسي الفرنسي هي انعكاس للسياسات الكارثية النيوليبرالية، التي طبقها منذ توليه الحكم في فرنسا، وسبّبت تردّي الأوضاع المعيشية لعموم الفرنسيين، وخصوصاً الفئات الفقيرة.
يريد ماكرون التنصّل من التسبّب بكارثية المشهد السياسي، ومن الفوضى التي أجّجتها مغامرته الخاسرة بالدعوة إلى انتخابات مُبكّرة، التي لم تنته نهايةً سعيدة، إذ استُبدِل باليمين المُتطرّف فوضى لا مناص منها في ظلّ برلمان مُعلّق، ورئيس يرفض التعايش مع اليسار، الذي أخذ يستعيد بعضَ قوّته، ليس في فرنسا وحدها، بل في إسبانيا وبريطانيا، في مقابل هزيمة قوى اليمين المُتطرّف. يبدو أنّ ماكرون وضع بالفعل فرنسا في موقف لا تُحسَد عليه، فالوضع مُهدّد بالتجميد والتعطيل إذا تشكّلت حكومة من خارج الجبهة الشعبية الجديدة، التي باتت تمتلك أكبر عدد من المقاعد النيابية، كذلك فإنّ “التجمّع الوطني” اليميني المُتطرّف لا يزال قوياً. والأجدى لماكرون في خياراته الحكومية تجنّب التعطيل، خصوصاً أنّه إذا حاول التحالف مع اليمين فإنّ بعض نوّاب معسكره قد يغادرونه وينضمّون إلى المعسكر الأقوى، فالماكرونية مشوبة بالانقسامات والتوتّرات بحكم طبيعتها، لكونها تمثّل حركة سعت لتجاوز أحزاب اليمين واليسار التقليدية، لكنّها دمجت شخصيات من الطرفَين السياسيَّين، ولم تُحقّق التغيير الذي كانت تطمح إليه.
المصدر: العربي الجديد