إبان انطلاق ثورات الربيع العربي في أواخر العام 2010، وقبل وصول شرارتها إلى سوريا، كان الرهان الأكثر حضوراً لدى كثيرين، سواءٌ في السر أو العلن، يتمحور حول قدرة السوريين على التظاهر ومجاراة أقرانهم من أبناء الثورات الأخرى، في المناداة بمطالب التغيير والتحرر من سطوة الطغيان والتوحّش، والصمود في مواجهة السلطات الأمنية الأسدية التي تنفرد بإرثٍ غير مسبوق من حيث دمويتها وإيغالها في تعنيف المواطنين، فضلاً عن قدرتها – خلال عقود سالفة – على تكريس الخوف والركون إلى إيثار الصمت تحاشياً لبطش السلطة لدى سواد الناس. ولربما أوحى تصاعد الرهان المذكور آنذاك إلى درجة تدفع إلى الاعتقاد بأن معركة التغيير الحقيقية سيكون ميدانها الشوارع والساحات العامة، وإن هزيمة السلطات الأمنية أمام تدفق المظاهرات السلمية هي المُنجز الثوري الأهم، لكونه يجسّد المدخل الذي سيفضي إلى هزيمة نظام الحكم القائم.
لقد صمدت المظاهرات السورية في الطور السلمي للثورة أمام ضراوة القمع الأسدي وتمكّنت من تحويل الاحتجاجات المحلية إلى ثورة عارمة في معظم البلاد السورية، وكانت تلك الانطلاقة المدخل الأساسي الذي مهّد لهزيمة السلطة ليس أخلاقياً فحسب، بل سياسياً وعسكرياً حتى عام نهاية عام 2014، لتبدأ مرحلة ثانية اتّسمت بتراجعات مؤلمة بفعل عوامل عديدة بدأت بقدرة قوى الظلام والتطرف على اختراق الثورة، تزامناً مع التدخل الدولي والإقليمي عسكرياً وسياسياً وتحكّمه بمفاصل قوى الثورة، ومن ثمّ تمكّنه لاحقاً من تكريس سلطات أمر واقع تحكم بالوكالة عن داعميها وممويلها بعد أن جعلت من الجغرافيا السورية مناطق نفوذ لأطراف متعددة.
ما من شك بأن المآلات الراهنة للقضية السورية تفصح عن تداعيات بالغة البؤس بالنسبة إلى السوريين عموماً، ولعل أهمّ تلك التداعيات يتجسّد في السطو الذي مارسه الأعداء المحليون والخارجيون على المنجز الثوري السوري، ومن ثم حشْر ما تبقى من قوى ثورية مخلصة (مدنية أو عسكرية) في زاوية ضيّقة، بعد تجريدها ممّا كان بحوزتها من وسائل وأدوات القوّة، وهكذا باتت الأطر أو الكيانات الرسمية للثورة مرهونة القرار والمبادرة بيد الأطراف الخارجية، كما بات نشاطها مرهونا بمسار التفاهمات الإقليمية والدولية، وبالتالي لم يعد استمرارها قائماً بدلالة العمل من أجل المصلحة الوطنية السورية، بل بدلالة حرصها على تأدية دورها الوظيفي المناط بها، وكذلك لم تعد معظم التشكيلات العسكرية المناهضة لنظام الأسد تملك خيارات الحرب أو السلم بعيداً عن إملاءات الراعي الإقليمي أو الدولي.
الحراك كمرجعية ثورية وأخلاقية
ولكن على الرغم من بؤس الإخفاقات الكبيرة والموجعة في سيرورة الثورة، فإن ثمة مُنجَزاً لم تستطع عوامل الخراب هدمه أو انتزاعه من نفوس السوريين، ويتمثل في أمرين اثنين: يحيل أولهما إلى إصرار السوريين على تمسّكهم بالمنجز الثوري الأهم وأعني ممارسة حقهم المشروع بالتظاهر والاحتجاج دفاعاً عن حقوقهم ومطالبهم العادلة، سواء أكان في وجه نظام الأسد أو أية سلطة أو كيانٍ حاكم آخر، وهذا يعني إصرار الوعي السوري الجديد على القطيعة المطلقة مع جميع مفرزات سياسة الخوف والترويع التي انتهجها نظام الأسد قبل آذار 2011. ويحيل الأمر الثاني إلى قناعة تتعزّز يوماً بعد يوم لدى جمهور الثورة بأن من كان أصلاً جذرياً للمأساة السورية لا يمكن أن يكون في الوقت ذاته سبباً في حلّها، ولعل هذا ما يفسّر الرفض الشعبي لأي شكل من أشكال المصالحة مع نظام الأسد على الرغم من غياب خيارات راهنة أخرى لازدياد اليقين بأن استمرار السلطة الأسدية في حكم البلاد لا يعني سوى الاستمرار في تعزيز مأساة السوريين وتجذّرها.
ومن هنا يمكن التأكيد على أن عودة السوريين إلى الحراك السلمي، بعد سنوات طويلة من غيابه، ما هي إلّا إعلان واضح بأن التظاهر والاحتجاج للمطالبة بالحقوق هو المُنجز الذي لا يمكن التخلّي عنه، فضلاً عن كونه الرأسمال المتبقي من عوامل القوة لدى جمهور الثورة.
نحو استراتيجية جديدة للحراك
ولعله من الصحيح أن معظم أشكال الاحتجاج والتظاهر، التي كانت تعبر عن مطالب معيشية أو سياسية، كانت تتسم بطابع مؤقت، أي غالباً ما تتزامن مع مطالب خدمية أو مع حدث سياسي أو ميداني، ولكنها سرعان ما تخفت بخفوت الحدث، إلّا أنها بدأت في الآونة الأخيرة تأخذ منحى آخر، يتجاوز حدوده المناسباتية، ليتخذ نهجاً استراتيجياً يمكن البناء عليه لمرحلة قادمة من العمل، ويمكن الذهاب إلى أن انتفاضة السويداء التي بدات منذ منتصف شهر آب من العام 2023 ، قد جسّدت منحًى جديداً في سيرورة الحراك الشعبي، وذلك من جهتين: تتجلى الأولى باستمرارية الحراك والقدرة على إدارته وتنظيمه وتحصينه من الاختراقات حتى الوقت الراهن على الأقل، وتتجلى الثانية بمطالبه الحاسمة والجذرية المتمثلة بتحقيق الانتقال السياسي وفقاً للمرجعيات الأممية، ولعل هذا ما جعل ساحة الكرامة في مدينة السويداء محط أنظار وأفئدة عموم السوريين الطامحين في التحرر والتغيير .
ولعله في السياق ذاته جاء اعتصام الكرامة في الثاني عشر من شهر تموز الجاري متجسّداً بمظاهرات شعبية حاشدة في كل من (اعزاز وعفرين)، ولعله من الصحيح أن الحراك في الشمال السوري لم يتوقف منذ شهر آب عام 2020 على أعقاب إعلان الحكومة التركية عن رغبتها في التطبيع مع نظام الأسد، إلّا أن حراك اعتصام الكرامة الجديد جسّد انعطافة جديدة في سيرورة الاحتجاجات الثورية لعدة أسباب، لعل أبرزها: الجانب التنظيمي والإداري الذي يحصّن حركة التظاهر من الجنوح لغير ما ترمي إليه، ثم المطالب العامة والحاسمة المتمثلة في رفض السوريين لأي حلول تفضي إلى تكريس سلطة الأسد، ولعل الأهم من ذلك كله الإعلان عن خارطة طريق تتضمن خطة لإنشاء كيان سياسي لقيادة الثورة السورية كبديل عن الكيانات الرسمية الوظيفية التي باتت عبئاً على القضية السورية وفقاً للمتظاهرين، وذلك بحسب البيان الذي صدر عن الجهات القائمة على الحراك، ولعل هذا المطلب الشعبي يحيل إلى مسألتين مهمتين، أولاهما تتجسّد بإحساس كبير بالمسؤولية من جهة أن الحراك ليس معنياً بالتعبير عن الاحتجاج الشعبي فحسب، بل يطمح إلى خطوات عملية أخرى، أي يهدف إلى إرساء منهج عمل للمرحلة القادمة، وتتجسّد ثانيتهما بالشروع لإيجاد قيادة تنبثق من الحراك الداخلي ذاته، وتنطوي هذه الخطوة على استدراك الثغرات أو الأخطاء التي انطوت عليها التجارب السابقة التي أنتجت كيانات قيادية أخفقت في تجسير الهوة بينها وبين جمهور الثورة وحراكها العام، لكونها تشكّلت خارج سوريا وكان دور الدول الخارجية في هندستها وتوجيهها أكبر بكثير من دور السوريين في الداخل، مع التأكيد بشدّة على أن انبثاق أي كيان قيادي من الداخل السوري لا يعني أبداً انشطار قوى الثورة إلى قسمين، كما لا يعني تعزيز المقولة الشعبوية ( الداخل والخارج ) التي ترعاها وتُضخِّمها ردّات الفعل والنزق المجاني، وإنما يعني أن تبقى المبادرة بيد من هم في مركز الفعل على الأرض باعتبارهم الأكثر قدرةً على التأثير، وهذا يوجب على جميع القوى الوطنية السورية – أحزاباً وجماعات وتيارات ومنظمات مدنية ونقابات وجاليات سورية في الخارج وشخصيات وطنية – أن تكون على سواء المسؤولية ذاتها، فالعلاقة بين قوى الثورة على الأرض وفي بلدان اللجوء والمهجر هي علاقة تكاملية، وقدرتها على تحقيق أي منجز مرهون بقدرتها مجتمعةً على التجسيد الفعلي لمبدأ التكامل الذي تكون فيه المصلحة الوطنية هي المعيار الناظم والأساس لأي برنامج عمل وطني، بعيداً عن أي شكل من أشكال المحاصصة الإيديولوجية أو العرقية أو الدينية أو الطائفية.
لا ريب أنه لا يمكننا تجاهل العديد من الأصوات التي ترى في العودة إلى الحراك الشعبي، عودةً إلى ( الحالة الصفرية) التي تتجاهل أو تطيح بما تم إنجازه خلال ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة، ولكنْ في المقابل ثمة سؤال: ما المنجزات التي تحققت للسوريين ويُخشى من التفريط بها؟ هل هي اللجنة الدستورية أم مسار أستانا أو سوتشي؟ أم مئات الآلاف من المفقودين والمعتقلين والضحايا داخل السجون، أم وجود أربع سلطات واقع على الجغرافيا السورية، أم الميليشيات الطائفية التي استحكمت بمقدرات البلاد، أم المستوى المعيشي الذي يحفظ الحد الأدنى من كرامة السوريين؟ أم الكم الهائل للقهر الذي يعانيه النازحون واللاجؤون السوريون على السواء؟ ما الذي يخشى السوريون زواله إذا كفروا بواقعهم الموغل في البؤس؟
وربما ثمة من يرى في هذه (الحالة الصفرية) كما يسمّيها البعض، اتكاءً جاء متاخراً، على سلاحٍ ( الحراك الشعبي) لم يعد يقوى على مجابهة التحديات الراهنة المتمثلة بالتدخلات الدولية ووجودها العسكري على الأرض السورية، ولعل الإجابة لا تنكر شطراً من معقولية هذا الرأي، ولكنها تنقلب إلى سؤال مفادُهُ: إذا كنتَ صاحب قضية عادلة تطول وجودك ومستقبلك، وتحسّستَ ضعفاً في أدوات ووسائل نضالك ومقاومتك، هل تعمل على تنميتها وتقويتها أم ترميها جانباً وتنتظر موتاً سريرياً في أفضل الأحوال؟.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
إن إصرار السوريين الأحرار على تمسّكهم بمنجزات ثورتهم بممارسة حقهم المشروع بالتظاهر والاحتجاج دفاعاً عن حقوقهم ومطالبهم العادلة، سواء بوجه نظام الأسد أو أية سلطة أمر واقع، هو إصرار للوعي الثوري والقطيعة المطلقة مع جميع مفرزات سياسة الخوف والترويع التي انتهجها نظام طاغية الشام.