نشر النظام السوري عبر صحفه نهاية حزيران-يونيو الماضي، مخططا يهدف لإعادة «تنظيم» مخيم اليرموك، بعد ثمانية أعوام على قصفه بطائرات الميغ، وبعد عامين من اقتحامه وتدميره وتعفيشه من قبل قوات الأسد المستمرة في سرقة كل شيء تركه النازحون والمهجرون منه، لم يسلم حديد الباطون والخشب والسيراميك العائد للبيوت المدمرة، ولم ينج أي أثر يدل على ما بناه اللاجئ الفلسطيني وحافظ عليه منذ نكبته الأولى، وبعد تدمير وثائق اللاجئين عن ديارهم وممتلكاتهم في فلسطين، عمد النظام على تدمير شواهد الشوارع والأزقة التي حملت أسماء القرى والمدن الفلسطينية ورموز نضالها، لم يبق أمامه سوى تنفيذ عملية المسح الكلي لما يدل على أثر اللاجئين الذين بنوا مخيمهم بسواعدهم طيلة ستة عقود.
رحلة المنافي
قلما يجد المرء بيتاً من بيوت مخيم اليرموك، لا يحمل قصة تعب أهله في بنائه، لا في رحلة المنافي للسعي نحو تأمين المسكن وباب الرزق الذي اجتهد الفلسطينيون في مخيمات سوريا على تطوير مخيماتهم وتحويل اليرموك عاصمة لشتاتهم، ومنطلق وخزان الثورة الفلسطينية وذاكرتها المتصلة مع بقية المخيمات.
يُترك اللاجئون من مخيم اليرموك لمصيرهم الفاجع بعد تدميره، ويُخذلون مرة أخرى في الترقب البريء لعودتهم إليه، خطة مسحه وإعادة بنائه على أسس ضرب الكتلة الاجتماعية والعمرانية والبشرية التي نسجها أهالي المخيمات الفلسطينية في سوريا لعقود طويلة، هي لإعادة تنظيم الوعي الفلسطيني في بوتقة الصمت عن الجرائم، وبعدما كانت أسماء العائلات والقرى والمدن تدل على الشوارع والأزقة، فعملية التدمير التي تمت تحت سمع وبصر العالم أجمع، وصمت منظمة التحرير وفصائلها، كشفت عن نماذج شتى من فاجعة مخيم اليرموك بطباع ومواقف جديرة بالتأمل، في كل مرة يستكمل فيها نظام الأسد عملية ضرب نسيج اللاجئين وهي ميزة لم تقتصر على ما ناله الفلسطينيون فأشقاؤهم في الفاجعة السورية شاهد فاضح، مع اختفاء «الخصوصية» التي حاول البعض تجميل وحشية النظام بها، لم تستثن جغرافية اليرموك التي توهم البعض تسويقها، وعزف تبريرات الأسد عن جرائم القصف والحصار، ثم التهجير والتجويع إلى سحل الجثث وقتل المئات تحت التعذيب من اللاجئين، وتلك بصمة نظام الأسد الوحشية على بقية مدن وقرى سوريا، وما يخططه من تغيير ديمغرافي لمعظم المناطق السورية سعيا لإخفاء الجرائم.
يحمل بعض منتمي الفصائل الفلسطينية بدمشق، رسائل هامسة للاجئين من اليرموك بتقديم «عرائض الاعتراض» على مخطط إعادة تنظيم اليرموك، وبعضهم يتفاخر أن النظام يسمح لمن يموت خارج المخيم بالدفن فيه كإنجاز وطني، التفاخر هنا يحمله ممثل المنظمة في دمشق ومن يسمى سفيرها، ومسؤول الدائرة السياسية، المقتصر عمله على التنسيق الأمني بينه وبين فرع فلسطين، ينسحب الأمر على «الهيئة العامة للاجئين» التي توفر كشوف اللاجئين لتدقيق فروع الأسد الأمنية، والبحث عن المطلوبين والمشتبهين بالدلالة على عناوينهم.
المفقودون والمعتقلون
في بداية العام 2013 تم تشكيل قائمة من 2300 اسم لمفقودين ومعتقلين في الفروع الأمنية عمل على إعدادها بعض النشطاء، وقدمت لمنظمة التحرير عن طريق السفارة، إلا أن كل الزائرين والموفدين الفلسطينيين للأسد منذ العام 2012، سمعوا وفهموا الفاجعة من فرع فلسطين، ومندوبيهم في الفصائل والمنظمة، لم يخرج صوت واحد بشكل رسمي يعترض على قصف المخيم بالطائرات والبراميل المتفجرة، وقذائف المدفعية والراجمات، لم يتم الاعتراض على «فصيل فلسطيني» متهم بمساندة الأسد في جرائمه، ولم يخرج صوت يطالب بجثث اللاجئين من اليرموك الذين قتلهم جلادو الأسد في فرع فلسطين، أو سحبها من تحت الركام حتى اليوم في اليرموك.
يسأل لاجئ من اليرموك نفسه، بماذا ينشغل العقل السياسي الفلسطيني القابع في مكاتبه القريبة من اليرموك، هل يتابع عملية تكسير ما تبقى من بلاط وسحب حديد وأخشاب وألمنيوم من ركام شقق اللاجئين بسيارات فرع فلسطين، هل اكتفى الاجتهاد الفصائلي على إصدار تنسيق أمني لدفن جثة كهل أو شاب قضى قهرا في بعده عن منزله؟
أم أن المنظمة وفصائلها منشغلة في صياغة بيان سياسي للرد على عملية الضم الإسرائيلية للأرض الفلسطينية التي حرق كوشان ملكيتها الأسد واقتلع لسان صاحبها في مسلخه البشري، ودمر مكتبته وصوره وذكرياته معفشو الممانعة.
روائي فلسطيني أو سياسي، شاعر ونخبوي وتشكيلي أو متحزب أو عضو مهم في عمله، يحب الوشوشة في تناول خبر اليرموك، ويعشق الصراخ في الدفاع عن الأسد، وتفنيد المؤامرة الكونية، التي يصغر فيها اليرموك وتتلاشى البراميل المتفجرة من الرواية، ويختفي فرع فلسطين من التداول الأخلاقي والسياسي، ينشغل حيز التفكير بالاعتراض والتصدي دفاعاً عن رئيس جيش التعفيش، وجلاد أبنائهم وأشقائهم، ثم يلتفتون إلى العدو للاعتراض على خطط ضم وفرتها جرأة موازية من الوحشية.
المصدر: القدس العربي