مرّت ثلاثون عاماً على إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 نتيحة توقيع اتفاق أوسلو بين منظمّة التحرير وإسرائيل، من دون التوقّف والنقاش بشأن هذه السنوات التي قد يُختلف في توصيفها، ولكن أحداً لا يستطيع أن يتجاوز نتائجها وما أفضت إليه.
أظنّ أننا، نحن الفلسطينيين، بحاجة لدراسة السنوات الثلاثين لمراجعة تجربة البناء المؤسّساتي وعملية “الدولنة”، بمعنى التحوّل إلى دولة، ومحاولة تعلّم الدروس والعبر من أجل تطوير المفاهيم والأدوات، ومن أجل تحسين الأداء. والمؤكّد أن ثمّة ما تم إنجازه وثمّة ما لم يتحقّق، وفي المسافة بين هذا وذاك هناك الكثير يمكن التوقّف عنده من أجل دفع المستقبل إلى الأمام. إنها المسافة غير الواضحة بين الصواب والخطأ، وهي المسافة التي تجري فيها المحاولة. ستقدّم قراءة جادّة وعميقة لسنوات عمر السلطة لنا الكثير من الدروس في الحيزيْن الخاصّ والعام، ففي الخاص يمكن أن نعرّف كل المناطق التي فشلنا فيها، وكيف يمكن لنا تطويرها، خصوصاً في الصراع الداخلي الذي تحوّلت فيه السلطة والسيطرة عليها إلى ساحة احتراب، بدلا من أن تكون منطقة تنافس من أجل الأداء السياسي والمؤسّساتي الأفضل.
هناك مليون سببٍ قد يسوقها أيٌّ منا ضد السلطة، كما أن هناك مليون فضيلة يمكن لمن يدافع عنها أن يجدها، لكن هذا ليس باب القصيد، فبكل المعايير، شكّل وجود السلطة الفلسطينية تطوّراً مهماً في الحياة العامة الفلسطينية، فيما اعتبره بعضهم نواة لوجود الدولة الفلسطينية التي لم تدّخر دولة الاحتلال جهداً في جعلها مستحيلة، وفيما يعتبره آخرون نتيجة غير محمودة لاتفاق غير محمود. شكّل هذا التطور بمن معه ومن ضده جزءاً من الوعي السياسي الفلسطيني العام، ومن تراكم الخبرات الفلسطينية. السلطة التي أخذت على عاتقها إدارة حياة المواطنين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وحتى بعد الانقسام وسيطرة حركة حماس على غزّة، ظلت شعارات السلطة ورموزها المؤسّساتية وأسماء تلك المؤسسات هي ما يحكُم علاقة السلطة القائمة هناك، أي سلطة “حماس”، مع المواطنين. وبغض النظر عن المخاض الذي نتج عن وجود السلطة، فإن وجودها ظلّ أمراً ثابتاً في كل الأحوال. وإن نقاشاً، وربما يخلص مسحٌ للآراء يشمل جميع الأطراف المعنية من النخب السياسية الفلسطينية في كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، وصولاً إلى دولة الاحتلال ودول الجوار والإقليم كما القوى الدولية، إلى أن أحداً لا يريد للسلطة أن تختفي. ولكن كل طرف يريد لها ما يراه عنها وحولها، ولكن المؤكد أن وجودها لم يعد موضع خلاف بالمعنى الإجرائي.
المؤكّد أنه حتى مخالفو السلطة وجدوا فيها مادة للصراع وللتنافس. تذكّروا أن المعارضة الإسلامية المتمثلة بحركة حماس رفضت دخول انتخابات العام 1996 للمجلس التشريعي، لكنها عادت في 2006 واعتبرت المشاركة واجباً دينياً ووطنياً. عموماً، تصعب إزاحة وجود السلطة ونفيها والتعامل معها كأنها غير موجودة، إذ إن مكوناتها المختلفة هي التي تتحكّم بمقادير حياة الفلسطينين العادية في الضفة الغربية وقطاع غزّة. وحتى حوارات المصالحة الفلسطينية الداخلية في كثير منها تدور حول بناء السلطة عبر الانتخابات، بجانب النقاش المهم حول بناء منظمّة التحرير. وعليه، ربما لم يعد وجود السلطة موضع خلاف، وإنما الخلاف بشأن أي سلطة نريد، وإذا ما كانت الإجابة عن هذا السؤال، فإن السؤال الأوسع سيتعلق بماهية المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري، وسيبدو أكثر وضوحاً، بمعنى أن السلطة يجب أن تكون جزءاً من الرؤية الوطنية العامة لغايات النضال التحرّري وليست عبئاً عليه. لقد تحوّل الصراع على السلطة طوال السبعة عشر عاماً الماضية إلى عبءٍ، وظل النقاش في سبل استعادة عافية المشروع الوطني مُنْصباً على توحيد مؤسّسات السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزّة. هل هناك من يقول توحيد مؤسّسات السلطتين؟ نعم أخذ الخلاف على السلطة جزءًا من عافية المشروع الوطني، وحرف البوصلة في مراحل كثيرة.
وفي الحيز العام من جهة بعض الدروس عن تجريب البناء “الدولاني” في سياق الاحتلال، كانت ثمة فتنة في الأطر النظرية في ممكنات تطوير الفلسطينيين نموذجهم الخاص القائم على بناء الدولة تحت الاحتلال. وكان الباحثون في الأكاديميات ينظرون بريبةٍ وشك إلى فرص ذلك وممكناته. ومع هذا، كان ثمة تأمل لكيفية تطور التجربة. ما حدث لا بد أن يكون موضع نقاش، حيث لم تقدّم كل نظريات “الدولنة” إجابات وافية بشأن كيف يمكن أن تنشأ كيانية فيما جنود الاحتلال يحدّون مثلاً من سيادتها، رغم بعض مقاربات في المفاهيم المرنة لمفهوم السيادة ولمفهوم احتكار العنف برؤية ماكس فيبر، والاستدلال بأن لا دولة في العالم، حتى الدولة الأقوى، ذات سيادة كاملة، استناداً إلى تطورات العولمة وانزياحات مفهوم الاحتكار المشروع للقوة وغير ذلك، كما أن المعايير المستعارة من السياسات المقارنة لم تُساعد كثيراً في ذلك. ومع ذلك، ثمّة ما يمكن تعلمه في التجربة الفلسطينية حول كيف نستطيع أن نفعل في سياقات هشّة ومرتبكة أن نبني دولة، وهو ما سيساعد في أدبيات الفكر السياسي في إعادة موضعة فكرة “الدولنة” وبناء الدول الهشّة، أو الآيلة للسقوط، بمعني إجرائي ونظري، وما لا نستطيع فعله، رغم كل النيات الحسنة. ما أقترحه أن قراءة الحالة الفلسطينية في الثلاثين سنة الماضية تستطيع أن تخبرنا الكثير.
مثلاً، هل يمكن أن نستطيع فرض الدولة أمراً واقعاً، بعيداً عن المحيط وعن العالم؟ المؤكّد في الحالة الفلسطينية أن الأمر أكثر من مجرّد بناء مؤسّسات، إذ لا يعني وجود هذه المؤسسات كثيراً من دون اعتراف العالم بها وتعامله بها، وهو ما أدركه الفلسطينيون وسعوا خلفه، لكن حتى المنتظم الدولي ليس عادلاً إلى هذا الحد الذي يقدم لهم الهدايا ويمنحهم المزايا. آخذين بالاعتبار، ولغايات التحليل الواقعي والنتائج التي أفضت إليها هذه الرؤية وهذا الافتراض، فإن ثمّة الكثير الذي يمكن تعلمه في الأطر النظرية من ذلك، خصوصاً بشأن الجوانب الثلاثة الأساسية المتمثلة في قوّة المؤسّسة (تحوّلها الدولاني الذاتي) والإرادة الجمعية (البحث عن السيادة) والاعتراف الخارجي.
وأيضاً، حتى تلك اللحظة التاريخية التي عاد فيها ياسر عرفات إلى قطاع غزّة في يوليو/ تموز 1994، لا تُستعاد على أهميتها. عاد من بوابة رفح (صلاح الدين). لذا سمّيت البوابة بمعبر العودة في ذلك الوقت، وظلت تحمل هذا الاسم ذاته، واستُقبل عرفات استقبالاً حافلاً على طول طريق صلاح الدين الرابط بين بوابة رفح الحدودية وبقية مناطق قطاع غزة، إلى أن وصل إلى ساحة الجندي المجهول في منتصف شارع عمر المختار، وألقى كلمته الأولى من على شرفة المجلس التشريعي، ثم نام ليلته الأولى في فندق فلسطين على شاطئ البحر. وتصدّرت صورته الشهيرة، ينظر إلى بحر غزّة، الصفحات الأولى في الصحف الفلسطينية صبيحة اليوم التالي، وأظنه قال قبل محمود درويش “البحر ده تبعْنا”، وبعدها قال درويش “هذا البحر لي”. لم يكن كل الفلسطينيين مع اتفاقية أوسلو التي نجحت دائماً في توفير مواد خصبة لمنتقديها ليهاجموها، لكثيرٍ من القصور فيها، ولكن إحساساً كان بأننا، نحن الفلسطينيين، على عتبة مرحلة جديدة، فوجود شرطة فلسطينية ووجود علم فلسطيني فوق المؤسسات الناشئة أعطيا إحساساً بأن ثمّة لحظة مختلفة. وأحالت أعمال روائية فلسطينية في الضفة الغربية وغزّة إلى تلك اللحظة، وجرى توظيف نشوء السلطة بوصفها كياناً يقع في الطرف الأهم في علاقات المواطنين بعضهم ببعض.
عموماً، إن نقاشاً وطنياً فلسطينياً في شأن السلطة كان يمكن أن يقدّم الكثير. وربما أن الحرب في غزة والمقتلة الجارية ضد الشعب الفلسطيني هناك أعاقتا الكثير. ومع ذلك، أي حالة فلسطينية لاحقة يجب أن تشمل ضمن تقاليدها المراجعات والنقد الذاتي والتعلم من الأخطاء، لأن على من يريد أن يبني أن ينظر جيداً إلى الأسس الموجودة، حتى يستطيع أن يضع بناء المستقبل. والحال كذلك أن قراءة التجربة ومراجعتها واجبتان في كل الظروف.
المصدر: العربي الجديد