أقلّ ما يمكن قوله عن الانتخابات الرئاسية التونسية المُقبلة، إنّها إذا أجريت فإنّها ستُجرى وسط بيئة من التوتّر وعدم الاستقرار، وشحن المواقف بين المعارضة وأجهزة الدولة، التي لا ترى ضيراً في إجرائها في بيئة كهذه، ما دامت لا تأبه لحال التردّي الكبير التي وصلت إليها البلاد. وبينما لم تقرّر الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات في تونس موعداً محدّداً لها، قال الرئيس قيس سعيّد إنّها ستجري في موعدها، وهو الموعد الذي لم يحدّده هو أيضاً. لذلك، ومع كلّ شروق يوم جديد، يقرّب من تاريخ انتهاء ولاية سعيّد، في أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل، يزداد الغموض الذي يكتنف هذا الاستحقاق، ويزداد معه توجُّس التونسيين من مفاجآت قد يُحضّر لها الرئيس استناداً إلى تدابيره الاستثنائية، التي يحكم البلاد وفقها.
بعد انقلابه على البرلمان والحكومة، في 25 يوليو/ تموز 2021، أبطل سعيّد العمل بالدستور، وأعلن أنّه سيدير البلاد بالمراسيم الرئاسية. ثم صاغ الدستور الجديد بعد سنة من انقلابه، وهو الدستور الذي قيل إنّه كتبه بمفرده مُستخلصاً ما يخدمه من دستور 2014، الذي نسفه باعتباره دستوراً يؤسّس لديمقراطيةٍ في البلاد تبيّن أنّ الرئيس لا يرى فيها سوى الشرّ. ورغم أنّه وعد، عشيّة انقلابه، الذي سمّاه “تدابير استثنائية”، بأنّه سيعمل بموجب الدستور الجديد المُنتظر، إلا أنّه قال إنّ شؤون البلاد ستدار إلى حينها بمراسيمَ رئاسيةٍ، لكنّ الأمر بقيَ مُستمرّاً حتّى الآن، رغم سريان الدستور الجديد القاصر.
ومع اقتراب الموعد المُفترض لإجراء الانتخابات الرئاسية، يُلمّح التونسيون إلى التناقض بين قانون الانتخابات لعام 2014 والدستور الذي صاغه سعيّد، من جهة شروط الترشّح لموقع الرئيس، هذا التناقض، الذي يختصر حال البلاد التي شلّتها تدابير الرئيس ودستوره. فبينما ينصّ قانون الانتخابات على شروط منها ألّا تقلّ سنّ المُرشّح عن 35 سنة، وعدم ممانعته حمل المُرشّح جنسية أخرى غير الجنسية التونسية، شرط تقديمه تصريحاً بذلك، وتعهّداً بالتخلي عنها إن فاز بالانتخابات الرئاسية، ينصّ دستور سنة 2022 على أن يكون عمر المرشّح 40 سنة، وألّا يكون حاملاً جنسية دولة أخرى. أما التناقض الأكثر أهمّيةً فهو ما وقع عندما استمر سعيّد في الحكم، في حين أنّه عند إقرار دستور جديد يصار إلى الدعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة. لكن، بينما جرت الانتخابات البرلمانية، إلّا أنّ الانتخابات الرئاسية لم تُجرَ، وهو ما جعل مُجتهدين قانونيين يقولون إنّ استمرار سعيّد في الرئاسة يُعدّ خرقاً للدستور، وبالتالي يجعل منه رئيساً غيرَ شرعي.
يبيّن هذا الأمر مدى التخبّط الذي وقعت فيه السلطة منذ انقلاب قيس سعيّد، وهو تخبّطٌ ناجمٌ عن تحضير الرئيس البيئة المناسبة للاستفراد بالحكم وبالقرار، واحتكاره جميع السلطات في شخصه، وضرب المعارضين والحرّيات في إطار وقف مسيرة الانتقال الديمقراطي في البلاد بعد الثورة، التي فجرّها أبناء الشعب ضدّ الحكم الدكتاتوري، وانتصروا فيها. وإذا كان قد نجم عن هذا التخبّط تراجع في الحياة الاقتصادية، فإنّه لا يمكن إعفاء سعيّد وانقلابه وحكمه الفردي الاستبدادي للبلاد من المسؤولية القصدية المباشرة عن ذلك، بسبب توفّر النيّة المُبيّتة لديه، إضافة إلى الإرادة لفعل ما فعله مع درايته بالنتائج المتوقّعة، التي لا تخفى على أحد، والتي عادةً ما تخلّفها الدكتاتوريات الشبيهة بدكتاتورية سعيّد.
كانت أخطر نتائج انقلاب سعيّد وضربه الحياة الديمقراطية هي تعمُّق الأزمات المالية والاقتصادية في البلاد، نتيجة تحوُّل اهتمام الرئيس وأولوياته إلى ضرب الخصوم السياسيين، بدلاً من البحث عن حلول لمشكلات البلاد. وفي ظلّ ذلك، تَبين أنّ الرئيس فاقد لأيّ رؤية اقتصادية واضحة، وقابلة للتطبيق، لإدارة البلاد وتقليل أزماتها، باستثناء دعوته للتصالح مع بعض رجال الأعمال المدانين جزائياً، وتوصياته بالعمل من أجل إعادة الأموال المنهوبة من الخارج، وهي رؤية تدور في إطار تعزيز الاقتصاد الريعي بدلاً من الاقتصاد الإنتاجي، الذي يُعدّ تعافيه شرطاً للنمو. وبسبب إهماله مشكلات البلاد، وممارساته، وحلوله الأمنية، وضربه الحرّيات العامة، والتضييق على الأحزاب، تزايدت مُعدّلات عدم الاستقرار، ما أثّر في حجم الاستثمارات الخارجية، وأفضى إلى تراجع السياحة وانحسار الأراضي الزراعية، وتراجع الثروة الحيوانية، بسبب نقص الأعلاف وزيادة أسعارها، وبالتالي تأزّم الاقتصاد الإنتاجي، أكثر فأكثر. ولهذا، دخلت البلاد في ركود اقتصادي أدّى إلى تراجع مداخيلها وزيادة حجم المديونية الخارجية بسبب تعثّر السداد، وزيادة مُعدّلات التضخّم ونسبة البطالة والفقر، وتراجع النمو الاقتصادي. وتُعدّ هذه من المُؤشّرات الخطيرة، إذ ظهرت آثارها بسرعة مع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين التونسيين، وزيادة أسعار الأدوية، والسلع التموينية، وفقدان بعضها، خصوصاً الأساسية منها، ما زاد من مصاعب التونسيين وأعبائهم المعيشية وفاقم مشكلاتهم.
في ظلّ هذا الواقع المُظلم، يقترب استحقاق الانتخابات الرئاسية الذي تنتظره البلاد وتُعلّق عليه آمالاً للخروج من دائرة الركود والفوضى الإدارية والتأزم الاقتصادي والمالي، في الوقت الذي يظهر فيه تجاهل الرئيس سعيّد المقصود لهذا الاستحقاق، وعدم تحديد تاريخ له، وعدم تقديمه أيَّ إشارةٍ لاعتزامه الترشّح لخوض الانتخابات. وفي الاتجاه المقابل، يظهر تشتّت المعارضة، وتزايد عدد من يعتزمون الترشّح، ومنهم من تصيَّدَهم الرئيس بتهم باتت مألوفة لدى كثيرين، وتتعلّق بالمسّ بأمن الدولة وهيبتها، وأرسلهم إلى السجن، ربّما لمنعهم من الترشّح. وإذ لم تتّفق المعارضة بأطيافها كافّة على مُرشّح واحد يواجه سعيّد، إن أعلن ترشّحه، وهو سيعلنه، يبقى الحظّ الأوفر للفوز بالسباق الانتخابي للرئيس قيس سعيّد، ليس بسبب التأييد الشعبي الكبير له، بل بسبب ضياع أصوات مُؤيّدي المعارضة، عبر توزّعها بين المُرشّحين الكُثر، الذين سيتوه التونسيون بينهم، وهو المطلوب من سعيّد.
إزاء هذا التشتت، والوهن الذي تعيشه المعارضة، بعدما استهدفها النظام، وهذه الفوضى، التي تعمّ البلاد بسبب إقصاء مؤسّسات الدولة باستثناء المؤسّسة الأمنية، يمكن القول إنّ سعيّد لم يُبقِ من الدولة التونسية ما يدلّ عليها، إذ حوّلها جهازاً خاصّاً وظيفته القسر واستخدام العنف لإخضاع الناس بطريقة منظّمة، وتوحي أنّها تستند إلى القانون، وهذا هو ما كان عليه شكل الدولة في عصرَي العبودية والقنانة. لقد انفصل سعيّد، شيئاً فشيئاً، عن المجتمع البشري في بلاده، هذا المجتمع الذي ينضوي ضمنه، ليس أبناء الشعب وقواه الحزبية والنقابية، بل حتّى البرلمان ومجلس الوزراء اللذان صنعهما بيديه وعلى مقاسه. وإذ غدا لا يستمع لأحد، بل يُملي على الجميع تهويماته، لم يعد يضطلع بأيّ عمل سوى الحكم، ولا همّ له سوى الحكم، في دولة ربّما أصبح يَعدّها، والشعب، ملكيته الخاصة.
المصدر: العربي الجديد
أي نتائج يمكن أن تحققها الإنتخابات بتونس؟ بعد أن خرق الرئيس قيس الدستور وأعاد كتابته وفق منظوره، وضمن الجو المشحون بين المعارضة وأجهزة الدولة، التي لا ترى ضيراً في إجرائها في بيئة كهذه، ما دامت لا تأبه لحال التردّي الكبير التي وصلت إليها البلاد ومعارضة أصابها الوهن بعد إستهدافها من أجهزة النظام، لإنّ سعيّد لم يُبقِ من الدولة التونسية ما يدلّ عليها .