(إن منفى أبي عبد الله لم يكن يرجى معه الرجوع، وقد سمح له الروم بأن يحمل معه كل ما يرغب في حمله، وهكذا فإنه رحل إلى النسيان غنياً ولكن بائسا، وعندما اجتاز آخر ممرٍ جبلي كان بوسعه أن يرى بعدُ منه غرناطة، ظلَّ طويلاً ساكناً مضطربَ النظرات شاردَ الذهن من الهول، ولقد سمّى القشتاليون هذا المكان: “زفرة العـربي الأخيرة”..) … الروائي أمين معلوف: “ليون الأفريقي”
(1)
بعدما سيطر القشتاليون على الأندلس إثر انهيار الدولة الإسلامية في الأندلس، قبل نحو ثمانمائة عام، وأجبـروا الخليفة العربي الأخير على التنازل، مثلما توضح الفقـرة التي وردت في رواية الروائي اللبناني أمين معلوف أعـلاه، لم يدمّر الحكام الجـدد دولة الأندلس، وذلك لأن أمر السياسة والحكم، بمختصر العبارة، يجنح، في طبيعته، إلى تحوّل وتبدّل، فالممالك تتهاوى والسلاطين إلى فناء، والجيوش إلى زوال، أما الحضارة فهي جماع الإرث الباقي من البناء الثقافي والروحي والمادي والمعنوي لأمّــةٍ من الأمـم، فأمـرها أكثر رسوخا وأعمق جذورا.
تنظر إلى إسـبانيا اليوم، وهي أندلـس الأمس، فتجد الموروث الحضــاري باقياً، تراه في الأدب والثقافة والفنون، كما في البـناء والعمران. انتصر القشــتاليون على رمــوز السياســـة والممالك والسـلاطين والجيوش في دولة الأندلــس، ولكنهم لم يحطـّمـوا قصـــور غرناطـة وقرطبــة، ولا بدّلـوا مظاهـر الإبداع في مجالات الفكر والفنــون والآداب، بل ولـم تغادر كلمات عربية لغـة الإســبان.
نقول بلغة اليوم: لقد ذهبت “القوة الصلبة”، ولكن “القوة الناعمة” بقيت، وهي الأقدر على البقاء بحكم قدرات التفاعل الإيجابي، وبحكم معايير البقاء للأكثر إبداعاً والأعمق فكراً.
(2)
لك أن تنظر مليّاً في أحوال الصّراعات والحروب التي لم تضعف التعاون المأمول والتشارك المرجوّ بين بني البشر فحسب، بل تفاقمتْ خلافات السياسة وصراعاتها، وزاد تباين المصالح وتقاطعاته، فصار السِّـباق نحو التسـلح أقرب إلى “ماراثون” إفـناء الـذات البشرية منه إلـى بقائـها.
حرب تدور في آسيا بين روسـيا وأوكرانيا، تدمّر خلالها “القـوّة الصلبة”: المباني والعمارة والمصانع، فيـما تبقى “القوة الناعمة” شـراكة بين الندّين المتحاربين. وبعد تلك الحرب، ومنذ إبريل/ نيسان من عام 2023، يدور قتالٌ في داخل الســودان وراءه أصــابع خارجية غير خافية، لم تكتفِ بتدمير “القوة الصلبة”، لكنها سـعت إلى تفتيت “القوّة الناعمة” بإصرار وسبق ترصّد. ثم تدور حربٌ ثالثة في أرض فلســطين بين كيانٍ مُغتصِـبٍ ظـالم وأمّــةٍ ذات حــقٍّ في أرضها، فنرى جيوشَ الطغــاة في إسرائيل تواجه من يقاومون صلفها فتقتل البشـر وتحرق الأرض وتبيد الحـرث، بما يعادل حربَ إبادة جماعية، دانتها المثـل والأخلاق والمواثيق الإنسانية جمعاء.
(3)
إن أمعنت النظــر مليّاً كرّة أخـرى، لن يغيب عن بصـرك أنّ لكلِّ هــذه الصّــراعات والحروب وجوها تتصل بهـوية أولئك المتصــارعين وبألوان انتماءاتهم. بيـن روســـيا وأوكرانيا تنافسٌ تاريخي قديم ظلّ نائماً سنوات طوال، خلال حقبة حكم الاتحاد السوفييتي التي امتّدت أكثر من 70 عاماً، إلا أنّ ذلك الاتحاد الذي ثبتت هشاشـته التاريخـية انهــار في أوائل العـقـد الأخيـر من القـرن العشــــرين، لم يفلح في تثبيت هوية واحدة، ولا في ولاء وحيد للاتحاد السوفييتي الذي قام على أسس الشــيوعية ومبادئها على أيـــدي مفكّرين كبار، مثل ماركس وإنجلز ولينين وســواهم. تنبّهـت دولة روســـيا إلى أن الهــوية السوفييتية لم تقض على هويات الشعوب التي ضمّها الاتحاد الســوفييتي السابق، فصارت كلُّ أمّـة تبحـثَ عمَّا يقوي انتماءها إلى أرضها. نشب الصراع الرّوسي الأوكراني بهدف رغبة موسكو باستعادة عناصر وطوائف من أصول روسية يساكنون الأوكرانيين في إقليم يقع في شرقي أوكرانيا. ذلك، مثلاً، ما يفسّر، مع أسبابٍ أخرى، إصرار موســـكو للسيطرة على خاركوف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية.
(4)
أما الحرب “شبه الأهلية” في السودان، فتتلاقى فيها وتتقاطع أجنداتٌ لأطرافٍ عديدة عيونها على ثرواتٍ في ظاهر الأراضي السودانية، وأيضا في باطنها. ذهبٌ هنا ونفط هناك. في الســـودان أنهار عذبةٌ وأراضٍ خصوبتها مُغرية، وأخرى سافانا تُنتج أشــجارها أكثر من 80% من إنتاج العالم من محصول واحد، الصمغ العربي. يشكو العالم من تناقص ثرواته المائية والغذائية، ومن تحدّيات تغيّـرات المناخ والاسـتحرار ونفاد الطاقة، لكن السودان لا يشــكو من شيء إلا من فشل نخبته في إدارة أحواله، وتلك هي الخطيئة الكبرى. ثراء في الموارد والثروات وفقر في إدارة استغلال تلك الموارد والثروات.
حين جاءت شركة شيفرون الأميركية للتنقيب عن البترول في السودان في أوائل سنوات الثمانينيات، فوجئ السودانيون بإيقاف جهود الشركة، بل وإغلاق آباره بالخرسانة، لأن نفط السودان مقدّرٌ له ألا يستخرج إلا بعد نحو عقدين، فهو مخزون احتياطي تتحكّم فيه أشباح تنتمي لما يسمّى المجتمع الدولي. هو نفسه المجتمع الدولــي الذي قسَّم السودان إلى شـطرين، وأذكى نار الفتنة في أقاليمه الغربية في دارفور، إذ المطلوب أن يبقى الســودان منشغلاً بصـراعاته الداخلية، فإن كادت أن تخمد نيرانها تتجاســر أيادٍ من وراء حدوده لتزيد نيران تلك الفتنة اشتعالاً.
(5)
ثم نأتي إلى الحـرب التي أدارها الإســرائيليون ضد الفلســطينيين، وتصــفها اختصــاراً جلّ أجهـزة الإعلام الغربية بأنها حرب إســرائيل ضد حركة حمـاس. ومن المؤسف أنّ أطرافاً عربية (لا أرغب في التحديد) عذراً، ترى أنّ حرب إسرائيل على الفلسطينيين يخوضها المجتمع الدولي بكامله ضدّ ما يســمّى الإرهـاب الدولــي. والتمويه الإعــلامي في العـالـم الغربي أداة مثل أيٍّ من أدوات تبرير الحــرب الدائرة لحماية سكان إسرائيل. ولـك أن ترى ثورة شباب العالم الغربي ومناهضتهم حكومات بلدانهم التي تناصر شطط إسرائيل في حرب إبادة شعب فلسطيني كامل، إذ هبّت جموعهم في جامعاتهم ومؤسّساتهم يناصرون الحقّ، ويقفون بصلابة، منادين بإيقاف الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون. هي المرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي التي تجتاح العالم هبّة قوية من أجل قضية فلسطين، خفتت معها أصوات، وتقاصرت عنها هتافات، كنا نسمعها عقوداً طوالاً من منظمّة التحرير الفلسطينية، وحكومات معها ظلّت تحتكـر القضية أكثر من جيليـن، والصلف الإسرائيلي يراوح مكانه ثابتاً.
لم يعد الجيل الثالث من العرب أو من اليهــود وحتى من الدّول الغربيــة مستكيناً، كما في سابق عهده، لســــلطات بلدانه التي تحتكر أصواته، فأبناء هذا الجيل هم الآن قد هبّوا يحتقرون أكثر حكوماتهم التي مالأت إسرائيل، وعلتْ أصواتهم فوق أصوات حكــوماتهم وأجهــزتها ومجالسها التشريعية وقنواتها الفضائية، تطالب بإيقاف الحرب الظالمة.
(6)
لمْ تعُـد صراعات العالم وحروبه تدور في الخفاء، كما الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهما، إذ انكشفت أطراف العــالم جميعها بعضها على بعض، وتراجعت إزاء التقـدّم العلمي الجبّار وما أحدثه من ثورة في التواصل والاتصــال تلك السطوة القديمة لأجهزة إعلام درجت على التحكّم في مسارات الرأي العام وتوجّهاته. لم تعد لشركات العلاقـات العامة من وظـيفة تؤدّيها لإظهار غير الذي يراد له أن يظهر، أو إخفاء ما لا يُراد أن تراه العيون وتسمعه الآذان.
لذا تجاوزت نماذج الحروب الدائرة الآن، سواء في روسيا أو في السودان أو في إسرائيل، بحرارة اشتعالها وحدّة مسبّباتها، مواثيق (وهياكل) الأجهزة التي أنيط بها حفظ السلام والأمن الدوليين، ذلك أن بعضها قد تجاوز تدمير القوة الصلبة إلى تدمير القوة الناعمة، وهي التي تنتج الفكر الخلاق وتستنطق التاريخ وتستشرف المستقبل. ولمجــابهة ما تفاقـم من تحدّيات، فإن على المجتمع البشــري أن يبـتدع أطـراً جــديدة، وأن تفـتح ســـاحات للفكــر الإنساني الخلاق، ليبتكر ما قد يعيـن لاستشراف واقع دولي آخـذٍ في التشكّل بوتيرة ينبغي التنبّه لتداعياتها، وأن لا ينشغل بتجليات الحروب الماثلة على حدّتها. وعليه مخاطبة جذور المشكلات، فإن كانت للإنسان رغبة في الحياة، وهي الفطرة التي فطر عليها الإنسان، فعلى المجتمع الإنساني الدولي أن يعمل من أجل أن تكـون الحيـاة ممكنة، وأن يكـون العــيش المشترك مظلة تقي البشرية ممّا قد يتربّص بها أو يفنيها من شـرٍّ مستطير يصنعه بعض أبنائها.
أيها الوالغون في القتال، في روسيا وفي السودان وفي إسرائيل: متى يخرج المهزوم منكم ليُصدر زفرته الأخيرة مثلما أصـدر أبو عبد الله زفرته الأخيرة في الأندلس؟
المصدر: العربي الجديد