لم تُعرَف السياسة في بلادنا مثلها مثل كثير من القيم والعلوم بالطريقة الحديثة كما هي في أوروبا، التي دخلت منذ نهضتها وتنويرها مسار التقدم، رغم أنها بالواقع كانت تمارس عملياً سواء من قبل الحاكمين أو المحكومين، بمعنى طريقة (فن) تدبير الأمور وإيجاد حلول لها، وهو معنى يقترب كثيراً من جوهر السياسة.
في العصر الحديث، مع استعمار البلدان العربية ونشوء الأحزاب السياسية إضافة لبعض المؤسسات السياسية الأخرى (برلمان، نقابة وغيرها)، ونتيجة لطغيان الطابع الأيديولوجي على السياسة وما نتج عنه من اصطفافات (حزبية -أيديولوجية)، تحوّلت إلى حد كبير إلى عملية طقسية ذات بعد ديني، فجمعت بين المفاهيم القديمة والحديثة مثل الثأر والانتقام (أريد أبي حيّاً)، ولا تصالح، والكل أو لا شيء.
لا شك أن بعض الشعارات التي تعتمد على مثل تلك القيم (لا تصالح)، أو (أريد أبي حيّاً) تلهب مشاعر الجمهور، كما يمكن أن تسهم في التعبئة، لكنها في الواقع، وعند تأملها وإخضاعها لميزان النقد والتأمل، لا يمكن أن تكون إلا دعوات للثأر والانتقام، إن لم نقل طلباً للمستحيل، وبالتالي إطالة أمد أي صراع أو معركة وفتح الباب أمام مزيد من حمامات الدم.
كما يلغي هذا الفهم للسياسة الآخرَ بعد تصنيفه كعدو، ويخلق المبررات لتصفيته بوصفه عدواً مزمناً لا يمكن التفاهم معه أو مجاورته، ويحوّل العملية السياسية إلى حرب لا تنتهي، وإن كانت السياسة شكلاً من أشكال الحرب، لكنها ليست الصيغة الوحيدة ولا الدائمة، فالحروب الكبرى تنهيها السياسة رغم اعتمادها على الميزان في الميدان، وهذا الميزان متغير وليس سرمدياً.
الأمر الآخر الذي وسم السياسة، وخاصة الحزبية بعد أدلجتها، هو إما كل شيء.. أو لا شيء، وهو مبدأ يتكامل مع الأول (الثأر والانتقام)، كما أنه يتنافى مع أبسط منطق علمي في محاكمة الأمور، وخاصة التي يكون فيها البشر كقوى اجتماعية فاعلة، حيث تتغير المصالح نتيجة الصراعات ومجريات الحياة، وبالتالي يمكن حتى للمواقف أن تتغير تبعاً لتلك الانزياحات الاجتماعية، وهو ما يتطلب تغييراً في المواقف السياسية حتى تبقى ذات معنى، أي ذات رصيد وقاعدة ترتكز إليهما، وإلا تحولت المواقف السياسية إلى خطاب أجوف فاقد للمعنى، لأنه فاقد للقاعدة الاجتماعية الحاملة له، خطاب تعبوي مؤقت، بينما تحتاج عمليات التغيير والبناء إلى مراكمة المكاسب والبناء عليها، وربما تكون الثورات كعملية هدم، إن نجحت، الحالة العابرة في السياسة، مع معرفة أن الثورات تقتصر على تدمير القائم، وفتح الباب نحو البناء، ولربما الثورات التي تتصدى للمهمتين نادراً ما تنجح.
ما تفترضه السياسة في الوقت الحالي، بوصفها آلية لتدبير أحوال الناس والبلاد وحمايتها، وفتح المجال أمام مشاركة أكبر القطاعات في تقرير مصيرهم ونمط حياتهم، هو التخلص من تلك المفاهيم التي أقحمت في السياسة وهيمنت عليها، ونقلها إلى المجال المتحرك المتجاوب مع المتغيرات، والمترابط مع مصالح الناس، والخلاص من صيغ القوالب التي تقيد البشر وتعميهم عن كل الوقائع والمتغيرات، لكن ليس بالطريقة الانتهازية التي تفسح المجال أمام تشويه من نوع آخر للسياسة وحتى للقيم والمبادئ، وما يضمن تلك العملية هو مشاركة البشر في صنع القرارات المتعلقة بحياتهم وبمصير بلادهم، بمعنى انتزاعها من يد النخبة، وهنا النخبة تشمل أي فئة تدعي القيادة، سواء تمثلت باللجنة المركزية أو مكتب الشورى أو الطليعة.
وعند تأمّل الكارثة في سوريا، المتمثلة بحكم عائلة الأسد ونظامها اللصوصي القائم على البلطجة، الذي أوصل البلاد إلى حالة لا يتخيلها العقل، ويمكن القول لا سابقة لها، إذ لم تعرف التجارب في التاريخ نتيجة لأي سبب أن نظاماً حاكماً -ولا حتى حروب أو كوارث طبيعية- هجّر نصف سكان البلاد، وقتل نسبة منه تصل إلى (5) في المئة منه، وطال باعتقالاته كثيرين، وحوّل المعتقلات إلى مسالخ بشرية، يتمنى فيها المعتقلون الموت، نتيجة لمطالبة الناس بحقهم في الحياة بحرية وكرامة، بمعنى مشاركتهم في تقرير نمط حياتهم بعيداً عن هيمنة وتسلط المخابرات والمحسوبيات، ندرك أن نظام العائلة الأسدية حوّل السياسة إلى قضية أمن وجودي لا مجال فيها لحقّ الآخر، ولا حتى وجوده، بمعنى أنه نظام نفي للآخر، ما لم يرضخ للعيش وفق شرطه: الخضوع بديلاً عن الجوع الذي تحول أخيراً إلى الخضوع والجوع.
وفي الطرف المقابل، طرف المعارضة، لم تختلف لغة الخطاب السياسي منذ عام 2011 حتى اليوم، رغم التغيرات الكبرى التي حدثت، فعدا عن فقدان الزخم الشعبي الكبير المناصر للثورة والمناهض للنظام، فقد تلقت القاعدة الاجتماعية للثورة ضربات كبرى سواء من التهجير والاعتقال والقتل والنزوح وغيره، ناهيك عن التدخلات الدولية العديدة حيث استجلبت سياسة التعنت الأسدية مقابل بقائه، ولو شكلياً على كرسي الرئاسة، جيوشاً عدة تسرح وتمرح في عموم سوريا.
والأمر المهم في هذا الطرف هو التشتت الهائل في صفوفه، هذا التشتت الذي يصل حد الاقتتال وارتكاب المجازر وعمليات الخطف، تلك العمليات التي لم تعد حكراً على نظام الأسد، بينما يتابع البعض منه السعي وراء سراب التفاوض وفق أجندات دولية لا تراعي مصالح السوريين.
خلق هذا التشتت من جهة، والحفاظ على خطاب شعبوي من جهة أخرى يخلط بين إسقاط النظام والتفاوض معه من وراء الستار، حالةً من الخذلان بين الناس، ورسّخ إضافة إلى عوامل أخرى صورة سيئة عن المعارضة، جعلت من سردية المقارنة بين الطرفين أمراً عادياً ورائجاً ليس بين الموالين، وحتى بين معارضي النظام، وبالتالي أسهمت في الترويج لسردية “الله يطفيها بنوره، والله يفرج”، رغم توافر كل العوامل التي تجعل من النظام الأسدي المسؤول الرئيس عن الكارثة التي حلّت بسوريا، حيث تجد هذه السردية منتشرة بين الهاربين من مناطق النظام وغيرها، والباحثين عن اللجوء في الدول الأوربية رغم قساوة ظروف العيش التي يتحدثون عنها، ناهيك عن مستوى الإذلال والعنف الذي يمارسهما نظام الأسد بحق الناس.
لا شك أن قصيدة (لا تصالح) جميلة بصورها ومعانيها، وكذلك مقولة (أريد أبي حيّاً)، لكنهما في مجال السياسة توصلان إلى سياسة الاستقطاب، إلى سياسة النفي للآخر، وبالتالي لإنتاج خطاب سياسي شعبوي غير ذي معنى، وتسهم بشكل ما في إضاعة حق من ضحى ومن مات وتهجر وجاع، كل هذا لسبب بسيط أنهما يعتمدان على قيم ومفاهيم سادت في عصور قديمة، بينما يمكن للسياسة بمعناها كتدبير لحياة البشر وإيجاد حلول لمشكلاتهم أن تنصف هؤلاء، وأن تسعى لتأمين حقوقهم من خلال محاكمة من قتلهم وسبّب في تهجيرهم، وهذا يستدعي بناء سردية وطنية وفق فهم جديد للسياسة تقوم على الوقائع وما تفرزه من ممكنات يمكن أن تشكل اللبنة الأولى لعملية التغيير والبناء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
قراءة ووجهة نظر لوضع القوى والسياسية والأحزاب بسورية قبل الثورة السورية ولما بعد انطلاق الثورة، هل أصبحت الأحزاب والقوى والسياسة ردة فعل ؟ هل شعلرات #لا_تصالح و #أريد_أبي_حياً جمعت شعبنا نحو مطالب محقة؟ أم أدت إلى سياسة النفي للآخر، وبالتالي لإنتاج خطاب سياسي شعبوي غير ذي معنى، شعبنا أطلق ثورته لمطالب محقة، والواقعية السياسية وجهة نظر .