لطالما أعرب ثوّار وكتّاب ومثقفون كثيرون وغيرهم من المناضلين عامة عن امتعاضهم الشديد من التزييف المقصود الذي تتعرّض له الأحداث في أثناء الثورات، وامتعاضهم كذلك من التحوير الذي يطاول سردية الثورة والمقاومة فيما بعد، فيصير التاريخ غير التاريخ، وتأخذ الفكرة مساراً آخر. وربما أن التسليم أو عدم الاعتناء بالتصحيح ومواجهة هذا التزييف هو ما جعل كثيرين يستسلمون لمقولة أنّ الثورة يصنعها الثوار ويستفيد منها الخونة، مقولة لطالما طفحت بها رواياتنا الأدبية، وبنفَس انهزامي، بلغ به الأمر جعلها بدهية وحقيقة ثابتة.
وما دام الحديث عن الثورة السورية، فإن سلوك الثورة لا يتوقّف عند الخروج إلى الشارع ومواجهة الاستبداد بصدور عارية فحسب، بل يمتد إلى فعل ثوريٍّ آخر لا ينفصل عنه، ولا يقلّ أهمية كذلك، ألا وهو التوثيق العلمي لهذه الثورة، بكل جوانبها المادّية والمعنوية، وبكل من ارتبط بها من قريب أو بعيد، وكل إسهام إيجابي أو مض6اد للثورة مهما بلغت حدّته وطبيعته. ولعل هذا الفعل المعرفي هو ما تبنّاه مشروع الذاكرة السورية الذي انطلق سنة 2019 تحت إشراف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
غير أنه لا يعني وصف هذه المبادرة بالثورية تحييد قيمتها العلمية والبحثية، بل الأثر الثوري فيها مختلف عن غيره، ذلك أنها ذات أثر رجعي إن صحّ القول، لأنها تهدف إلى صون الذاكرة من التزييف، كسره احتكار السلطات والحكومات سردية الأحداث الكبرى، كما عنون مدير المشروع، عبد الرحمن الحاج في إحدى تدويناته. أو لنقل تحفظ الصورة المتعدّدة للأحداث، أو لعلها تحاول ذلك ما أمكنها، وتجعلها كذلك أكثر التصاقاً بالوفرة الأرشيفية التي أتاحتها التكنولوجيات الحديثة.
للسوريين، كما لغيرهم في المنطقة، حسابات ثقيلة مع مسألة السردية هاته، يذكر الجميع حدث سحق مدينة حماة والمجزرة التي اقترفها النظام سنة 1982. يستحضر الحاج هذا الحدث الأليم متحسّراً على أن اللحظة التاريخية حينها سمحت للنظام باحتكار السردية من دون منافسة تُذكر، فطمس بذلك الوقائع والأحداث وسمح لروايته بالبقاء على شكل “ذاكرة الخوف”.
من خلال تتبع ما قاله عبد الرحمن الحاج، محاولين أن نستوعب معه أفق هذا المبادرة متعدّدة الابعاد، يتبين أن هنالك عاملاً مهماً، قد أدرك بمعية فريقه أهميته واختلافه النوعي، والذي لعب لصالح الثورات والشعوب لحظة الحراك الديمقراطي في 2011، وهو التكنولوجيات الحديثة وحرية الفضاء الرقمي. هذا الأخير الذي سمح لأول مرّة بأن يوضع التوثيق والرواية على محكّ المنافسة، فالجميع يرصد ويدوّن ويصوّر، بل ويعبّر عن سردية للحدث من زاويته الخاصة، لقد طفقت السرديات تتزاحم أمام مرأى العين الاستبدادية من دون أن تجد حيلة للجمها. فالحرية التي ما تفتأ تفاجئنا المنصّات الرقمية بأبعادها الجديدة في كل آن، جعلت من كل “البسطاء” كما سمّاهم آصف بيات، أو “الإنسان العادي” حسب تسمية الحاج، يسهمون في كتابة تاريخهم الوطني، فلم يعد ممكناً تصوّر تاريخ أحق بالحضور والحفظ من تاريخ آخر، فالكل يدعونا إلى اكتشاف سرديته واستذكار الحدث بعينه وذائقته.
تصف منصّة الذاكرة السورية التي أُطلِقَت يوم 7 مايو/ أيار الجاري 2024 مشروع الذاكرة هذا بأنه منجز علمي بحثي يسعى لتوثيق أكبر قدر ممكن من التاريخ الشفوي (حيث يضمّ مكتبة بلغت 2500 ساعة)، إلى جانب كتابة اليوميات، وأرشفة الوثائق (مسموعة ومرئية زائد الصور والبيانات الخاصة)، وعند الاطّلاع على مواد الموقع، نجد توثيقاً أيضاً للشعارات الصوتية والمسجلة بالفيديو، واللافتات التي درج الثوار على حملها، إلى جانب الدوريات المكتوبة، بالإضافة إلى الأشخاص بشتى تلاوينهم السياسية والعسكرية والدينية والفنية وغيرها، سواء الموالية للنظام أو المعارضة له، إلى جانب الكيانات التي شكّلت جزءاً من الثورة منذ مارس/ آذار 2011، الرسمية والحكومية والعابرة للحدود والعسكرية والدينية، والقبلية والأهلية.
من المثير فعلاً أن نجد توثيقاً للشخوص الأكاديمية الثقافية حسب تصنيف المنصّة، يحفظ للباحثين على سبيل المثال؛ رأي أدونيس من الثورة، وموقفه منها، وتصنيفه أيضاً أديباً موالياً للنظام، بالإضافة إلى حفظ أسماء بحثية أخرى معارضة كبرهان غليون أو عزمي بشارة مؤلف كتاب “سوريا حرب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن”، وجمال الدين باروت والراحلين صادق جلال العظم وسلامة كيلة ورضوان زيادة وياسين الحاج صالح وسلام الكواكبي ورنا قباني ونجيب جورج عوض وغيرهم ممن كانوا فاعلين في إسناد هذه الثورة من قريب أو بعيد.
ولم تتوقّف سلسلة التوثيق للشخوص عند هذا الحد، فنجد في خانة التصنيف الديني توثيقاً لموقف عالم الدين البارز محمد سعيد رمضان البوطي الذي قتل في 20 مارس/ آذار 2013، والذي وُسم بموالاته للنظام، ومعاداة الثورة، وتوثيق فتواه المثيرة للجدل؛ بأن من يقتل من المتظاهرين فمصيره إلى النار، أو نعته مقاتلي الجيش الحر بالحثالة. لنجد في مقابله عالم الدين البارز كذلك الراحل وهبة الزحيلي المصنّف في خانة “المعارضة”. إذن، فالموقف والرأي لم يعد موضعاً للبس والتلاعب، فالجميع سيذكر ما لك وما عليك، والجميع سيوثق كل ما يتعلق بالفاعلين في أدق تفاصيله.
هذا، ومن دون إغفال مسألة حفظ بعض الشهادات المسجلة صوتاً وصورة، والتي ستمنح الباحثين مادّة حية، من واقع التجارب الشخصية، ستساعدهم على تمثل أفضل لهؤلاء الفاعلين المؤثرين والمتأثرين بالثورة، وتمثل لحظتهم بنسبية شخصانية.
لقد حفظ مشروع الذاكرة التصنيفات ذات الانحياز السياسي كذلك: منها تصنيف المرتزقة مثلاً؛ الذين يصنّف في خانتهم كل من فاغنر وشركة موران وشركة فيغا، وكلها شركات أمن خاص، ثم عسكرية تخدم النظام، وشركات عابرة للحدود. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، حيث يوثق أيضاً دور حزب الله، وحركة أمل، والحرس الثوري الإيراني، التي وردت كلها في خانة الكيانات الموالية للنظام، وأيضاً كتائب حزب الله العراقي، وجيش المهدي، وحزب الله الحجاز (الكيان السعودي الموالي للنظام أيضاً)، وقوات الباسيج أو اللواء 313، إلى جانب قوات البحرية الروسية، والفيلق السلافي… إلخ.
ولا يمكن أن نغفل كذلك الحديث عن فريق العمل، الذي يديره كما سبق القول الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، الذي لم يكن سعيه من خروج المشروع إسهاماً في توثيق أحداث الثورة السورية فقط، وإنما الإجابة عن قلق المعاناة مع الاستبداد التي سبقت هذه اللحظة، والتي لا يمكنها أن تشكّل في حالة الحاج هنا إلا إجابة بحثية تستدرك على السردية المهيمنة وتفتح الباب لإعادة كتابة الأحداث دائماً.
إذن، نحن أمام منجز توثيقي هام، لا يمكن إلا أن نعدّه فعلاً ثقافياً وتقليداً علمياً يستحقّ التنويه، كما ينبغي أن تنتقل عدواه إلى دولٍ عديدة في المنطقة التي شهدت حراكاً بطريقة أو بأخرى، لبلوغ هدفٍ أساسي ولدت من أجله هذه المنصّة الرقمية، وهو مواجهة عمليات التزييف المقصودة والمحتملة التي لا تخدم إلا الاستبداد والنسيان واللاعدالة.
المصدر: العربي الجديد