خلاف على المناصب والصفقات المشبوهة وسرقة الاموال والثروات، واتفاق على خدمة المحتل وشرعنة مخططه لتدمير العراق دولة ومجتمعا. هذا هو فحوى الصراع ومضمونه، بين متزعمي الطوائف والكتل والمليشيات المسلحة من جهة، ورئيس الحكومة مصطفى الكاظمي واتباعه ومريديه من جهة اخرى. واي ادعاء غير ذلك، حول بطولات الحكومة الجديدة وتوجهات رئيسها لاستعادة هيبة الدولة وحل المليشيات وحصر السلاح بيدها، او تلبية مطالب الثوار، ليس سوى اكاذيب وافتراءات لا اساس لها من الصحة. فهؤلاء الاشرار لم يجر اختيارهم من قبل المحتل، لبناء العراق الجديد كما ادعى المحتلون، وانما تم انتقاؤهم بدقة لتنفيذ مشروع الاحتلال التدميري، وشرعنته بعقد اتفاقيات مذلة، مثل الاتفاقية التي عقدها رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي عام 2008، والتي سميت بالاتفاق الاستراتيجي او الاتفاقية الامنية، التي باعت العراق بالجملة، والاخرى التي ينوي الكاظمي التوقيع على نسخة طبق الاصل منها، خلال الاسبوع المقبل مع الولايات المتحدة الامريكية.
الجديد في هذا الصراع انه اصبح مكشوفا وعلنيا اكثر مما ينبغي، وان المتصارعين لم يعد يهمهم ردود الفعل، لا من قبل الشعب ولا من القانون ولا مما ينتظرهم من عقاب ولا حتى من وخزة ضمير. بل لم يتوان هؤلاء الاشرار عن توظيف الدم العراقي في هذا الصراع، بعد ان كان مقتصرا على تبادل الاتهامات والشتائم المبتذلة، او التهديدات بكشف ملفات الفساد او جرائم القتل. اذ لا يمر يوم دون حدوث تفجيرات او السماح للمنظمات الارهابية بقتل الابرياء او اغتيال الشخصيات التابعة لهذه الجهة او تلك، وكان اخرها اغتيال الخبير الامني هشام الهاشمي، لمجرد مساندته للحكومة ولرئيسها شخصيا. وتجدر الاشارة هنا الى ان هؤلاء الاشرار لم يعد في حساباتهم الدفاع عن عمليتهم السياسية، والتباهي بالديمقراطية والانتخابات والدستور، للتغطية على عوراتهم. فمنهم من وصف العملية السياسية بالفاشلة والهزيلة، واخر وصفها بالعرجاء وثالث قال عنها بانها ولدت ميتة. اما الدستور فقد وصفه احدهم بالملغوم والاخر بالمشوه والثالث بالمتناقض، بل ان احدهم اعترف بان الامريكان هم من كتبوه، وانهم وقعوا عليه بعد اضافة مواد ضمنت مصالح هذه الجهة او تلك. اما نظامهم الديمقراطي، فهؤلاء لم ينكروا ضحالته ولا الاسس التي استند عليها، والمتمثلة في نظام المحاصصة الطائفية والعرقية المقيت، بل ان المليشيات المسلحة اخذت تتباهى في الاونة الاخيرة، بانها هي التي تحكم البلاد وليس رئيس الحكومة او السلطة التشريعية. اما رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي فقد اعلن بالصوت والصورة تزوير الانتخابات وحرق صناديقها وفساد اعضاء مفوضيتها كافة.
هذا السقوط السياسي والاخلاقي والاجتماعي لهؤلاء الاشرار، ولد قناعة راسخة لدى عموم العراقيين ، بان الصراع الجاري بين رئيس الحكومة والمليشيات المسلحة، هو صراع كاذب ومخادع، او على الاقل لا علاقة له بمصالح العراق والعراقيين. بل تاكد لديهم، بما لا يدع مجالا للشك، بان هؤلاء الاشرار لا شاغل لهم سوى الاستحواذ على السلطة والتمسك بها، وسرقة اكبر قدر من المال العام. بحيث ان اتباع الحكومة ومرتزقتها، فقدوا القدرة على الدفاع عنها وعن عمليتها السياسية، وعلى تسويق رموزها كشخصيات وطنية حريصة على العراق واهله. الامرالذي ادخل هذه العملية السياسية واطرافها في مازق خانق، مما دعا رعاتها، الامركيين والايرانيين، للبحث عن مخرج ينقذهم من ورطتهم. خاصة وان الثورة العراقية التي تسعى جاهدة لاسقاط العملية السياسية برمتها، قد استفادت من هذا المازق وخرجت بمكاسب كبيرة عززت مسيرتها نحو الانتصار النهائي. حيث منحتها مشروعية اكبر، وضاعف من قوتها، لتصبح امرا واقعا يصعب على هؤلاء الاشرار القضاء عليها، سواء بقوة السلاح، او عبر تشويه سمعتها، او الالتفاف عليها، او خداعها بانصاف الحلول.
لا نعني هنا بان الثورة العراقية، التي منحها القدر مثل هذه الفرصة الثمينة، اصبح بامكانها الانقضاض على العملية السياسية واسقاطها فورا، فالمحتل الامريكي لن يسمح لهؤلاء الاشرار الاستمرار في صراعاتهم لاي سبب كان، وسيعمل مع وصيفه الايراني بكل قوة من اجل وقف تدهور العملية السياسية، والخروج من هذا المازق الخانق، فهذه العملية السياسية هي السلاح الذي يعتمد عليه المحتلون، للوقوف بوجه الثورة العراقية التي باتت تشكل خطرا داهما عليهم. بمعنى اخر فان المحتل سيعمل بكل الوسائل والسبل على ترميم العملية السياسية واحيائها وتحصينها، سواء بالتي هي احسن كما يقال، او باستخدام العصا الغليظة لاجبار هؤلاء الاشرارعلى العودة تلاميذ نجباء. عندها سيتوقف سكان المنطقة الخضراء عن الكلام المباح، وينتهي بهم الامر الى ما انتهت اليه الصراعات السابقة، ليعودوا اصدقاء واحباء، هذه ليست قراءة في فنجان او تنبؤات منجم، فالعراق ما زال يرضخ تحت الاحتلال الامريكي ووصيفه الايراني، ومن مصلحتهما الحفاظ على العملية السياسية وديموتها وتقويتها. ولتنشيط ذاكرة الموهومين، نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، الصراع الذي دار بين نوري المالكي واياد علاوي، قطبي الرحى، في ما يسمى بالعملية السياسية في منتصف سنة 2011، الى درجة دعت الاخير الى اصدار بيانات نارية اشبه بالبيان رقم واحد في الانقلابات العسكرية، حيث توعد في احدها “”باسم الشعب” بالقصاص العادل من المالكي وحزبه، كونهم خفافيش ظلام خربوا البلاد والعباد وفسحوا المجال لايران بالهيمنة على العراق ومقدراته”، ليرد عليه المالكي ببيان يهدد فيه علاوي “باعتقاله وتقديمه للمحاكمة بتهمة الارهاب والتامر على الوطن”، حتى تخيلنا حينها بان هذا الصراع سيؤدي الى انهاء العملية السياسية والاحتلال معا. لكن شيئا من هذا لم يحدث وعاد كلا الطرفين لحظيرة تلك العملية السياسية المقيتة.
اما الحديث عن الخلاف الامريكي الايراني، او دور ملالي طهران وتحكمهم بالقرار العراقي او حكام المنطقة الخضراء، فهو ليس صحيحا تماما، فامريكا لم تزل اللاعب الاول في العراق، وان الدور الايراني لم يصل الى الحد الذي يهدد المصالح الامريكية في العراق. او التقليل من حجمها، او حتى المساس بها، لا من قريب ولا من بعيد. فالدور الايراني، رغم اهميته وخطورته في العراق، يبقى مكملا للدور الامريكي في ابقاء العراق تحت الاحتلال الى اطول مدة ممكنة. وهذا ما يفسر مجموعة التصريحات والتي ادلى بها مصطفى الكاظمي التي تنطوي على الاعتذار وطلب الغفران من قبيل “جئت الى السلطة لا من اجل الثار وانما جئت من اجل المصالحة والمشاركة والتعاون”. ليس هذا فحسب، وانما سيجبر المحتل الحكومة وبرلمانها على توفير بعض احتياجات العراقيين الضرورية لتخفيف معاناتهم، بهدف تشجيعهم على الالتفاف حول الكاظمي وحكومته، على امل عزل الثورة العراقية عن محيطها الشعبي الذي يعد لحمتها وسداها.
وفق هذا السياق لا استبعد اطلاقا نجاح المحتل في توحيد سكان المنطقة الخضراء، والاكتفاء بما سرقوه من المال العام، لكننا لا نستبعد ايضا قدرة الثورة على التعامل مع اي مستجد وفي اي وقت. اذ لم يعد سرا بان الثوار قد استعدوا لهذه الحالة المرتقبة باختيار اساليب مواجهة جديدة، من قبيل اعادة تموضعها ومراجعة اساليب عملها والاهتمام بتصعيد نشاطاتها التي تراجعت جراء وباء الكرونا القاتل. خاصة النشاط الاعلامي لدحض كل الافتراءات حول الادعاءات الكاذبة التي تبشر بنهاية الثورة. وافشال المحاولات الاخرى التي تشيع بان الثوار اصبحوا من انصار مصطفى الكاظمي او قبلوا بالمشاركة في العملية السياسية عبر مجلس مشترك بين الكاظمي وشباب من الثورة. وهذا بدوره سيقطع الطريق على حالات المساومة او تقديم التنازلات التي تظهر من قبل اية ثورة تواجه مثل هذه الظروف الصعبة. وليست مصادفة عابرة ان يجري الترويج هذه الايام لمقولات من قبيل، لقد ادت الثورة العراقية واجبها وانتهى دورها، بعد ان نجحت في تنصيب الكاظمي رئيسا للحكومة وهو من خارج العملية السياسية. اضافة الى التركيز على تصريحات الكاظمي المستمرة بالوقوف الى جانب لثورة وتلبية مطالبها، ومنها اجراء الانتخابات المبكرة. ومما يعزز هذا الاستنتاج النشاط الملحوظ الذي يقوم به عدد كبير من الوطنيين العراقيين واصحاب الكلمة ورجال الاعلام، في هذه المرحلة بالذات، دعما للثورة والدفاع عنها وتعزيز
مواقفها، والتعبير عن هويتها وتوضيح اهدافها النبيلة وتعبئة الناس باتجاه دعمها ومساندتها، وايجاد منافذ لخرق الحصار السياسي والاعلامي المفروض عليها عربيا واقليميا وعالميا، الامر الذي سيمكن الثوار من مواصلة مسيرتهم نحو تحقيق الانتصار النهائي. وفي كل الاحوال، وبصرف النظر عما يؤول اليه هذا الصراع، فان انتصار الثورة اصبح امرا مقضيا، وحينها ستشرق شمس العراق القوي الواعد حتما، وسيسجل التاريخ في صفحاته هذه الملحمة البطولية باحرف من نور. ليس لانها هزمت هؤلاء الاشرار في المنطقة الخضراء، وانما هزمت ايضا اكبر قوة احتلال عالمية وهي امريكا، والاخرى اكبر قوة اقليمية وهي ايران.
المصدر: كتابات