العراق نموذجاً أميركيّاً جديداً للدولة

إياد الدليمي

يبدو أنّ نموذجَ عراق ما بعد الغزو الأميركي (2003) فريد لشكل الدولة، وقد يكون مطلوباً أميركياً في المرحلة المُقبلة، بمعنى أنّنا قد نشاهد كيانات دول أخرى تنحو منحاه، بإرادة أميركية دولية كبرى. لمَ لا؟… فهذا النموذج يُقدّم لأميركا ونظامها العالمي الجديد، الذي بشّرت به وزيرة خارجيتها السابقة كونداليزا رايس كلّ ما تحتاج إليه، ليبقى القرن الواحد والعشرون  أميركياً.
تغير مفهوم الدولة مرّات عدّة، وأخذ أشكالاً مختلفة باختلاف الأزمنة، وتبدّلت أحوال الأنظمة المُتحكّمة بهذا العالم، ولعلّ أوّل تعريف وتحديد لمفهوم الدولة، بشكلها الحالي، يعود إلى عالم الاجتماع السياسي الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920)، إذ عرَّفها بأنّها “منظّمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية، تحافظ على الاستخدام الشرعيّ للقوّة في إطارٍ مُعيّن الأراضي”. كما عرَّفت موسوعة لاروس الفرنسية الدولة بأنّها “مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محدّدة ويخضعون لسلطة معيّنة”. في حين رأى عديد من فقهاء القانون الدستوري أنّ الدولة كيان إقليمي “يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه”. غير أنّ التعريف الذي خرجت به اتفاقية مونتيفيديو في الأورغواي (1933)، بين الدول الأميركية، بحضور رئيس الولايات المتحدة، يوم ذاك، فرانكلين روزفلت، يبقى الأكثر توصيفاً لشكل الدولة وهو التعريف الذي أُودع في وثائق عصبة الأمم المتّحدة، وتحوّل إلى تعريف شامل وجامع لمفهوم الدولة الحديثة. تُعرف هذه الاتفاقية الدولة بأنّها “مساحة من الأرض تمتلك سكّاناً دائمين، وإقليماً مُحدّداً، وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، ومباشرة العلاقات الدولية مع الدول الأخرى”، مع الأخذ بالاعتبار أنّ هذه الدولة وحدها تحتكر القرار، وتحتكر القوّة بلا منازع.

وأنت تستعرض كلّ تعريفات الدولة، وتحاول أن تطبّقها على “دولة” مثل العراق ادّعت أميركا يوم غزتها بأنها ستتحوّل واحةً للديمقراطية في الشرق الأوسط، تكتشف أنّ أياً من هذه التعريفات لا ينطبق على العراق لا من قريب ولا من بعيد، بل لعلّنا نشير إلى نموذج أميركي جديد لشكل الدولة، حتّى وإن لم تصرّح بكنهه الولايات المتحدة، إلا أنّها عملت على تكريسه وكأنّها تحاول أن تصدّر نموذجاً جديداً لمفهوم الدولة، بدأ من العراق وامتد من دون أن نشعر، إلى سورية، ومن قبلها لبنان، ومن ثمّ اليمن، ووصولاً إلى ليبيا وحتّى السودان، وقد تلحق بها مصر، التي تشهد تغييرات كبيرة على مستوى احتكار السلطة في يد الدولة، وربما يصل امتداد هذا النموذج إلى دول أخرى.
لا توجد دولة دعمت النظام العراقي عقب الغزو الأميركي أكثر من أميركا. ليس لأنّ العراق خطأها، الذي تحاول أن تكفّر عنه، ولا لأنّها تؤمن بأنّ هناك نموذجاً يستحق الدعم، بل سعت الولايات المتّحدة من خلال هذا النموذج إلى أن يبقى العراق الدولة بما هو عليه؛ جغرافيا وحدوداً تحكمها مجموعة من المليشيات ارتدت زيّ رجالات السياسة، وفي أحيانٍ كثيرة، عصابات فاسدة تنهب المال العام وتتاجر بكلّ ممنوع، وتفكّر بكلّ شيء إلا أن تبني دولة. ربما هو النموذج الأقرب إلى المصلحة الأميركية، هذه دولة بلا مخالب، لا داخلية ولا خارجية، منزوعة السيادة، وحتّى منزوعة الصلاحية، يتحكّم بها شخوص ينتمون إلى مصالح خارج جغرافيا العراق، تتنافس على ثرواته ومقدّراته مصالح متضاربة، تتلاقى على أرض المصلحة، وإنْ لا يجمعها جامع.

تفيد التقديرات بأنّ أكثر من 72 مليشيا مسلّحة في العراق، في ظلّ وجود هذا الشكل الجديد للدولة، بعضها مُصنّف أميركياً على لائحة الإرهاب، تمتلك هذه المليشيات المال والسلاح، وقادرة على أن تحكم كلّ مفاصل الدولة، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وحتّى عسكرياً. ومع ذلك، لا تفعل أميركا كثيراً من أجل ردعها، حتى لو قصفت هذه المليشيات ذات يوم قاعدة أميركية، طالما أنّ هذه المليشيات تعمل تحت السقف المُحدّد أميركياً.
أكثر من ذلك، الولايات المتّحدة على استعداد أن تقدّم كلّ الدعم الدبلوماسي لهذه “الدولة” بكلّ تفرّعاتها المليشياوية، ومستعدّة أيضاً أن تحميها إن استدعت الحاجة، ولمَ لا؟ طالما أنّها دولةٌ رهن الاعتقال بالمفهوم الأدقّ، تقبع مفاتيح إدارتها في واشنطن، لا تستطيع أن تمتلك من أمرها شيئاً، أما مفهوم الحرّية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وغيرها، من تلك المصطلحات العابرة التي صدّرتها أميركا، فأعتقد أنّ الجميع بات يعلم أنّها ليست أكثر من مُصطلحاتٍ فارغة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، تستخدمها أميركا وقت ما تريد، وتدوسها وقت ما اقتضت الحاجة، وفضّ اعتصامات الجامعات الأميركية بطريقة جمهوريات الموز في الشرق الأوسط، دليل أخير.
“الدولة”، وفقاً للصياغة الأميركية، التي تمثّلت بنموذج العراق، هي جغرافيا، ليس شرطاً أن تكون مُصانة، وهي جيش وحكومة، ولا بأس معهما بمليشيات مسلّحة، ولا بأس مع الجغرافيا بانتهاكاتٍ وتغييب للحرّيات، ولا بأس في اقتصاد متهاوٍ يعتمد على الغير، بل حتّى لا بأس في هذا النموذج الجديد من ماكينة كبيرة لغسل الأموال عبر مشاريع وهمية وحيل “شرعية”، نموذج ربما سترى فيه أميركا مصلحتها، وستعمد إلى تعميمه بالتدريج، فهي معنية بسطوتها، وأن يكون القرن الحادي والعشرون أميركياً، وغير ذلك، لا يبدو أنّ أميركا معنية به على الإطلاق. وسلام من قبل ومن بعد على شعارات “الديمقراطية” و”الحرية” و”حقوق الإنسان”.

المصدر: العربي الجديد

 

ليس بالضرورة أن يعبر هذا المقال عن رأي الموقع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى