مع تغيير إسرائيل قواعد الاشتباك المعمول بها مع إيران ومليشياتها وأذرعها على الجغرافيا السورية، والانتقال من استهداف شحنات الأسلحة إلى استهداف كبار جنرالاتها وقادتها في سورية ولبنان ضمن تكتيك ما يُعرف بـ”حرب ما بين الحروب”، أصبح مطلوباً من جيش الاحتلال واستخباراته، ليس فقط الحصول على معلومات استطلاعية كانت تؤمنها منظومة إسرائيلية عالية الدقّة بالتعاون مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي الموجود في الشمال السوري، وتضم أقماراً صناعية وطيراناً استطلاعياً ومسيرات وأجهزة التقاط وتنصّت إلكترونية، بل تحتاج بالتحديد لمعلومات استخبارية موثوقة مكانياً وزمانياً، ومن مصادر خاصة لا يُشك في صدقيّة معلوماتها، وهذا ما دفع إيران إلى تشكيل لجان تحقيق في سورية للبحث عن مصادر ومواقع الخرق الاستخباري الذي يستفيد منه جهاز الموساد الإسرائيلي في تحديد مواقع القيادات الإيرانية وتحرّكاتها، والتي اتخذت أخيراً من إيران دروعاً بشرية عندما نقلت مقارّها وأماكن اجتماعاتها إلى البلدات والمدن والأحياء السكنية، إضافة إلى عملية إعادة انتشار وتموضع لقواتها فوق الساحة السورية.
لكن، بالتحقيق، برزت نقطة غاية في الأهمية، توقّفت عندها لجان التحقيق الإيرانية، تتمثّل بأنّ هناك قدرة لعملاء إسرائيل بتحديد مواقع انتشار مليشيات إيران على الأرض، وبإمكانهم أيضاً تحديد محاور تحرّك قوافل الشحنات العسكرية، وتحديد مواقع مستودعات الأسلحة الإيرانية، لكن ليس بمقدور هؤلاء العملاء تحديد تحرّكات قائد الدعم اللوجيستي الإيراني في سورية ولبنان، رضي موسوي، مثلاً، وليس بمقدورهم أيضاً تحديد تحرّكات رئيس استخبارات فيلق القدس، حاج صادق أوميد زاده، وكبار معاونية ومستشاريه في حي المزّة بدمشق مع لحظة دخوله “مبنى الأصدقاء” بزيارة سرّية للعاصمة دمشق. وأكّدت التحقيقات الإيرانية أنّ هناك خرقاً أمنياً كبيراً في سورية، وأنّ تلك المعلومات التي تتحصّل عليها إسرائيل ليست في متناول العامّة، ولا تتوّفر إلا لدائرةٍ ضيّقة من المسؤولين الأمنيين والسياسيين السوريين، مستبعدةً ما خلصت إليه لجان تحقيق للنظام السوري عندما اتهم النظام بعض عناصر مليشيات إيرانية وسورية، واعتقلهم بعد أن نسب إليهم تهمة التعامل مع الموساد وتسريب إحداثياتٍ هامة، واعتبرت إيران أنّ نتائج التحقيق السورية ليست إلا تبريرات غير مقبولة غايتها التغطية على الخرق الأمني الذي نسبته إيران إلى مسؤولين سوريين كبار، خصوصاً في جهاز الأمن.
إسرائيل التي لا تعترف عادة بتلك الضربات الجوية، الصاروخية أو عبر الطائرات المسيّرة، وإن كانت كلّ عمليات الاغتيال التي تقع على قادة إيران وحزب الله تتفق معظم الأطراف على أنّها إسرائيلية القرار والتنفيذ. ومع ذلك، تبقى إيران عاجزة عن الرد وعاجزة حتى عن حماية قادة مليشياتها داخل سورية ولبنان وحتى في إيران. وفي الوقت نفسه، ورغم سيطرتها الميدانية في سورية، إلا أنّها لا تستطيع اتّخاذ إجراءات ردعية ضد كبار مسؤولي الأسد، وكلّ ما استطاعت إيران القيام به عمليات إبعاد لكبار قادتها إلى طهران مع إبقاء عملية السيطرة والتحكّم عن بعد في متناول أيديهم عبر قادةٍ صغار. أيضاً، أكّدت مصادر أنّ إيران استطاعت في العامين الأخيرين تشكيل قوات محلية بديلة، وسحبت معظم الإيرانيين من سورية، فقد شكلت مليشيات نواف البشير العشائرية، ومليشيات نبل والزهراء، ومليشيات كفريا والفوعا، واستقطبت لواء القدس الفلسطيني من مخيم النيرب في حلب، إضافة لمليشيات عراقية كالنجباء وحزب الله العراقي وسيد الشهداء وغيرها، للإبقاء على نفوذها العسكري على الساحة السورية، خصوصاً بعد الانسحاب الروسي الجزئي من سورية بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. لكن مشكلة إيران الكبرى في سورية تتمثل في بقاء مليشياتها، وكلّ أذرعها في سورية من دون غطاء جوّي، فالمضادات الجوية في جيش الأسد بالية ومستهلكة وفاقدة أيّة قدرة على التصدّي للصواريخ أو الطيران الإسرائيلي بسبب تقادمها الفني، وحتى منظومة الدفاع الجوي “إس 300” التي بإمكانها القيام بتلك المهمة، وتشكيل حالةٍ ردعيةٍ بوجه إسرائيل ولو جزئية، رفضت روسيا طلبات جيش الأسد باستخدامها تحت ذرائع متعدّدة، منها عدم إلمام الضبّاط السوريين بتقنيات المنظومة، وأبقتها تحت سيطرة خبرائها العسكريين، ثمّ مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا سحبتها من الأراضي السورية، وأعادتها إلى موسكو تحت ضغوط إسرائيلية. وعندما أرادت إيران تعويض النقص في الغطاء الجوي السوري واستقدمت أجزاء من منظومتي دفاع جوي إيرانيتين هما “باور 373، وخرداد 15″، دمّرت الصواريخ الإسرائيلية وسائط كشف تلك المنظومات في مطار الضبعة في ريف حمص قرب مدينة القصير، وكذلك دمّرت رادارات أخرى لتلك المنظومة تمّ نصبها في ريف السويداء. وفي مطار دير الزور العسكري، وعادت الصواريخ والطائرات الإسرائيلية لتسرح وتمرح في السماء السورية.
القصف الذي طاول أخيراً منطقة القلمون السورية التي تعتبر عمق الوجود العسكري لحزب الله ومنطقة نفوذه أعادت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية القديمة باستهداف أرتال الأسلحة الإيرانية على سورية ولبنان، لكن ما ميّز تلك الضربات، وما يفسّر بقاء النيران المشتعلة لعدّة ساحات في المنطقة بعد استهدافها من أرض الجولان المحتل، أنّ الهدف الذي استهدفته إسرائيل بصواريخ من نوعٍ خاص، حيث طاولت الضربات الصاروخية المستودعات الاستراتيجية للجيش السوري، وهي أكبر مستودعات يتم تخزين السلاح فيها للحالات الطارئة، وبعد نفاد الوحدات القتالية الضخمة التي توجد عادة لدى الفيالق والفرق والألوية في مناطق تحشدها وانتشارها، ومستودعات “دنحا” التي قُصفت شكلت ضربة مزدوجة لحزب الله عبر تدمير قافلة سلاح إيرانية خاصة كانت في طريقها إلى البقاع ثم الجنوب اللبناني، وقبل دخولها في نفقٍ خاصٍّ بحزب الله تحت الأرض يقع خلف جبل مار مارون، وضربة أخرى للاحتياطات الاستراتيجية لجيش النظام السوري، كون تلك المستودعات هي الأضخم لدى النظام. لكن ما أرعب الأهالي في منطقة القلمون، وهم يشاهدون قصف مستودعات دنحا وقصف كتيبة الهندسة وبطارية دفاع جوي قرب مطار الناصرية العسكري، أنهم يعلمون تماماً أنّ هناك مستودعات “الهدم”، وهي مستودعاتٌ لتخزين السلاح الكيميائي. والمعلوم للسكان أنّ معظم أسلحة النظام الكيميائي ومخزونه كانت قد نقلت إلى تلك المستودعات، عندما قامت لجان التفتيش التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية الدولية عقب استخدام جيش الأسد للسلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية بتاريخ 21 أغسطس/ آب عام 2013 ضد المدنيين المحاصرين، وخوف الأهالي ناجم عن إصابة بالخطأ لأيّ من تلك المستودعات، وما يمكن أن يسبّبه من كارثةٍ على سكان كامل منطقة القلمون.
المصدر: العربي الجديد