في المقالة السابقة، وجدنا أن عرَّاب الرأسمالية وفيلسوفها الأول ماكس فيببر، و تنبؤات إيمانويل تود الإستراتيجية الثاقبة، تشير إلى أن المنظومةَ القيمية أساس نهوض الأمم، منذ حِلفُ الفُضولِ (في شهر ذي القعدة عام 33 قبل الهجرة/591 ميلادي) إلى الميثاق الأعظم “ Magna Charta 1215″ مروراً بالرسالات السماوية التي أسست لدول حاكمة، مثل: مملكة داوود وذي القرنين والخلافة الإسلامية. ومع انحلال الثقل الأخلاقي الذي تحدث عنه إيمانويل تود في كتابه “سقوط الغرب”، يحل الآن محله الثقل العدمي الذي تتمثل أخطر أشكاله عندما يمتلك القوة العسكرية والاقتصادية، كما هو الحال اليوم مع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، ومجموعة السبع عموماً. يظن التحالف الأرثوذكسي الصهيوني الصفوي أنهم يمتلكون الثقل الأخلاقي الموروث تاريخياً الذي يُمكنهم من إزاحة العدمية الغربية، ويغنمون بذلك ثقلها الاقتصادي والعسكري؛ ليتحكموا بمصير البشرية ويُسَوِّقون أيديولوجياتهم التي تمتزج فيها الأساطير والخرافة بالتاريخ والأحلام الاستئصالية، ويعملون على إزاحة القوي العدمي (مثل البروتستانتية الآفلة و الكاثوليكية المنهكة والمتقوقعة) والأيديولوجي القوي ذو الحامل الضعيف والمتصارع في داخله (وعلى رأسه العرب وأهل السنة). والسؤال الذي طرحناه في مقالتنا السابقة هل ينجحون أم يفشلون؟
كذلك تحدثنا أن تلك المشاريع العابرة لها حتميةٌ حددتها سنن الخالق، لكن متى؟ وكيف؟ وهل نشهدها أم لا بأعمارنا القصيرة؟ فهذا أمر يفوق قدرة البشر، لكن الأكيد أن كلَّ الأفراد سوف يُسألون عن موقفهم وعملهم تجاه هكذا مشاريع يتنازع فيها الشيطان مع بني آدم معركة الحياة وما بعدها !!!!!
لكن على الجانب الآخر سواء لمن يقفون متفرجين عاجزين عن مقاومة المشروع حتى في قلوبهم “وهذا أضعف الايمان” أو أولئك المنظرين لنظريات المؤامرة التي -بحسب رأيهم- يصعُب على الصادقين مقاومتها ومواجهتها إلا بالحيلة والحلول البراغماتية السائلة (من أمثال ممثلي الإسلام السياسي)، لابد من وقفة تحليلية حَتَّى يَتَبَيَّنَ لنا- من خلالها- الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
قال الفيلسوف الفرنسيّ ريمون أرون ذات مرّة، وكان يتحدّث عن المثقّفين، مع أنّ كلامَه يتجاوزهم: إنّ على المرء أن يتساءل: “ماذا يمكنني أن أفعل لو كنت في مكان أولئك الذين يحكمون؟”ومن هنا تماماً سنبدأ بتفكيك الخمسين درجة للون الرمادي الذي يحيط بكل جوانب حياتنا!
فالمطلوب، عند ريمون أرون، هو تحديد الحلِّ «الممكن» الذي يكون أفضل «لفرنسا أو للسلام، أو الأكثر تناسقاً مع الأخلاق». فهو لم يقل «الحلّ الأمثل» ولا قال «الحلّ الأخلاقيّ» بضربة واحدة. رأي ريمون أرون أن إصدار أحكام قاطعة ونهائيّة لا تقبل التطبيق فهذا ممّا لا تُحمد عقباه دائماً، وهو عند من يؤكّدون على المسؤوليّة والعمليّة، كريمون أرون، بعض ما لا يُحمل على محمل الجدّ.
تاريخياً كان الفيلسوف الإسكتلنديّ ديفيد هيوم (1711-1776) أوّل من دافع عن فكرة المعارضة الشرعيّة، ولو بشيء من التحفّظ. فقد رأى أن يكون للمعارضين دورُ إشرافٍ سلبيّ ومحدود على عمل الحكومة، لكنّه حذّر من الذهاب بعيداً في الشقاق والتنافر بما قد يقود إلى حرب أهليّة.
بعد هيوم، وفي الحقبة الزمنيّة ذاتها، أحدث إدموند بيرك (1729-1797)، السياسيّ والكاتب الإنكليزيّ – الإيرلنديّ، نقلة أخرى؛ فقد دافع -وهو الموصوف بأنّه مؤسّس المحافَظَة السياسيّة- عن دور أحزاب سياسيّة يستحيل من دونها اشتغال المجلس التشريعيّ. هكذا حاول تطوير نظريّة تعكس الممارسة البرلمانيّة التي مارسها هو نفسه كنائب قرابة ثلاثين عاماً. وكان ما يضاعف إلحاحه على ضرورة المعارضة أنّ إنكلترا القرن الثامن عشر لا تعيش حرباً أهليّة، ولا خوف عليها من حرب أهليّة بعد الحرب التي عرفتها في القرن السابعَ عشرَ، هذا، ناهيك عن أنّ أيّاً من الحزبين، «التوريز» (أجداد المحافظين) و«الويغز» (أجداد الليبراليّين) لا يحرّض عليها.
لكنْ لماذا تأخّر ظهور مواقف كهذه حتّى القرن الثامنَ عشرَ؟ سبب ذلك أنّ السلطة السياسيّة، قبل التنوير، كانت موصولة بالمقدّس، وكان الحاكم يتمتّع بـ «حقّ إلهيّ» يصوّر حُكمه بوصفه امتداداً لرغبة الله. هكذا وُصمت معارضة الحاكم معارضةً للإله ذاتِه، ما يجعلها كفراً ومروقاً، ويجعل المعارضين أقرب إلى نسل شيطانيّ.
في دول الخليج العربي فكرةُ المعارضة لم ولن تغدُ شرعيّةً إلاّ مع علمنة السياسة في المستقبل، وفصل حيّزها عن حيّز الدين والقداسة. فإلى الآن صورة المعارض بوصفه كافراً آثماً موجودة، ولم تحل محلّها صورته كصاحب رأي مغاير أو مصلحة مغايرة؛ يحق له التعبير عن معارضته واتخاذ كافة الأشكال والوسائل لمحاولة تحقيق نظرته المغايرة.
في باقي الدول العربية لم يعدِ الدينُ المصدرَ الوحيد للتشكيك بالمعارضة وبشرعيّتها؛ إذ أضيفت إليه الإيديولوجيّات التي استعاضت عن الدين بالإلحاد أو اللا أدريّة، إلاّ أنّها كانت تعلمن الدين عبر زعمها التعبير عن حقائق مطلقة كحقائق الدين تماماً. وهي، بالتالي، مارست التحريم على من يعارض حقائقها تلك أو رمته بالخيانة. وإنّما بالمعنى هذا، كانت أنظمة شيوعيّة وقوميّة تُجري انتخابات لا معارضة فيها، تتنافس خلالها أحزاب وأشخاص يتّفقون كلُّهم على دعم النظام القائم وتنزيهه، إلاّ أنّهم يحتفظون بخلافات طفيفة حول طريقة توفير الدعم هذا؛ كذلك بات من المألوف، في البيئة هذه، نفي الانتخابات وإبطال المعارضة من خلال نسبة تصويت فلكيّة للحاكم ومرشحّيه؛ والحال أنّ دلالة الحصول على ما يتجاوز الـ99 بالمئة من الأصوات تتعدّى التضخيم الخرافيّ لمحبّة الحاكم إلى اعتبار معارضيه الذين يقلّون عن 1 بالمئة مجرّد زمرة معزولة لا تضمّ إلاّ خونة وضالّين ومجانين.
في ولاية الفقيه بإيران وما يلف لفَّها من الفصائل فلا حاجة إلى هذه الطرق الالتفافيّة في علمنة الدين أو منح موقعه لفكرة غير دينيّة. فهنا ثمّة عَود على البدء الأوّل حيث يُقدّم النظام بوصفه موصولاً بالله من دون وسيط أو تأويل (ولاية الفقيه) .
حال المتفرجين الصامتين والمعارضين المستسلمين للديناميات الحالية لا يخرج عما ذكرناه؛ لأن مايتمنونه ليس خلق معارضة سياسية حقيقية (كما وصفها ديفيد هيوم و إدموند بيرك) تغير قواعد اللعبة المفروضة علينا – ليس منذ النهضة الأوروبية وصعود الغرب، ولكن يمكن القول منذ المُلك العضود، وإلى يومنا هذا- ولكن بالتعبير العامي تهدف إلى “قلب المنقلة” أو تحقيق مقولة: “قوم يا معلم حتى أقعد محلك”، وبالتالي هنا نرى أنه منذ مئات السنوات كان الصراع في هرم السلطة صراعَ عنفٍ ينتهي بالقتل والدسائس وتدمير مقدرات الدولة، وقد ينتقل إلى باقي الجسد، ولا يبقى في الرأس فيجرُّ معه كوارث وحروب اقتتال يفنى بها البشر والحجر!
مفهوم المعارضة مبدأٌ تربويٌّ فلسفي، بل حتى قرآني, فالقرآن مليء بتلك المشاهد التي تمثل معارضة الأفكار وآليات حلها حتى ينتفعَ بها الناس، ويصلون بها إلى حياة أقرب للسلم الأهلي الذي نعمت به الشعوب التي قوضت الحق الإلهي وفكرة الأيديولوجية المطلقة للسلطة السياسية، وشرعنت وقوننت المعارضة وجعلتها منهجَ حياةٍ يدخل في كل مناحي الحياة في المدرسة والأسرة والحي والسوق, قبل أن تسقط في فخ العدمية التي سوقت له القوى المتحكمة اليوم بالمشهد الدولي ، التي سوف تنهي عصر الأنغلو ساكسون الذي لم يجلب معه إلا العبودية للبشر بشكليه القديم والجديد أو بالأحرى المتجدد!