في حين تلعب تركيا، كقوة إقليمية صاعدة، بالرغم من بعض العثرات، دوراً محورياً في منطقة الشرق الأوسط باتجاه الأمن والاستقرار واحترام قواعد الممارسة الديمقراطية، فإننا نفتقد، حتى تاريخ إعداد هذه المقاربة، لأنموذج عربي يستطيع أن يقود المنطقة إلى طريق الحرية والكرامة والاستقرار، ومحاولة التوسط تفاوضياً للمساهمة في حل صراعات المنطقة أو على الأقل نزع فتيل انفجارات محتملة، وبناء علاقات تعاون اقتصادي متطورة بين الدول العربية ومع دول الجوار أيضاً.
إذ لم يتجدد المشروع العربي، لا في هويته الفكرية والسياسية ولا في حضوره الاجتماعي (لعلَّ نجاح المملكة العربية السعودية في مشروعها الإصلاحي يشكل قاعدة أنموذجية للنهوض العربي في المستقبل)، إذ يبدو أنّ قوى مؤثرة في هذا المشروع لم تدرك بعد أنّ العروبة ودولة الحق والقانون والمواطنة مرتكزات متكاملة في بحث شعوب هذه المنطقة عن تماسكها، عن سلمها واستقرارها وأمنها الاجتماعي، وعن طموحاتها وتطلعاتها إلى المستقبل.
وفي الواقع لا يمكن أن نتحدث عن الدولة الأنموذج دون أن نؤكد أنها دولة الحق والقانون الذي يتساوى فيها الحاكم والمحكوم، دولة الكل الاجتماعي، وأنها دولة مجتمع المؤسسات الحزبية والمدنية التي تنظِّم حياة الناس وتدافع عن حقوقهم، ومجتمع الواجبات حيث يؤدي كل فرد واجبه تجاه المجتمع.
وفي الوقت الذي تغيب فيه عن المشهد الإقليمي نماذج عربية ناجحة، تشترك تركيا مع إيران في طرحها أنموذجاً متكاملاً ورؤية متسقة لمستقبل الشرق الأوسط، مع التباينات الأساسية بين الأنموذجين. ففي حين تمثل إيران، داخلياً، حالة من التداخل بين الدين والسياسة تغيب عنها الديمقراطية الحقيقية، تقف تركيا معبِّرة عن إمكان الجمع الناجح بين علمنة مؤسسات الدولة والمجال العام والتحوُّل نحو ديمقراطية تقبل مشاركة، بل قيادة حزب ” العدالة والتنمية ” الإسلامي الحياة السياسية في إطار ضمانات دستورية وقانونية واضحة.
وفي المقابل، على الرغم من نجاح عدة دول عربية في المحافظة على استقرار الحكم، إلى حد بعيد، معتمدة في ذلك، إما على ريع الوفرة النفطية أو قمع الأجهزة الأمنية أو كليهما، إلا أنّ ثنائية المجتمع المتطور – نسبياً – والدولة التقليدية تنذر بتوترات، كما هو الحال في العديد من الأقطار العربية، تعبِّر عن نزوع قوى المجتمع الحية إلى الاصطدام بحكام الدول لانتزاع المزيد من الحريات المدنية والعامة، وللدفع في اتجاه تحديث المؤسسات، كما حصل في موجتي ربيع الثورات العربية في عامي 2011 و2019.
والحقيقة أنّ أبرز إرهاصات الرفض الشعبي هذا أضحت ترتبط، في المقام الأول، بتواتر الاحتجاجات الاجتماعية ذات الخلفيات المحددة كمكافحة الغلاء والبطالة وتحسين الخدمات الأساسية ومستويات الأجور والإعانات المقدمة لمحدودي الدخل وغيرها، وبدرجة أقل بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الحياة السياسية الرسمية بمقاطعة الانتخابات الصورية والابتعاد عن الأحزاب، بعدما شاع التحاق أكثرها بالسلطات المستبدة، وبالتالي الشك بصدقيتها وقدرتها على التعبير عن مطالب وتطلعات المواطنين.
وفي الواقع ظل الفكر السياسي العربي، بجميع تياراته، يعاني من شح الثقافة الديمقراطية وضعف الوعي الحقوقي، لاسيما بمسألة التنوُّع والتعددية والاعتراف بالآخر وتداول السلطة سلمياً وسيادة مبادئ القانون والمساواة واحترام حقوق الإنسان وغيرها. ولم تكن البيئة الثقافية العربية قد أفرزت مطالب وشعارات تربط بين الدولة، ككيان قائم ومستمر وليست السلطة كحالة متغيِّرة، وبين الإصلاح الديمقراطي الداخلي والتخلص من الهيمنة الأجنبية.
وهكذا، يواجه العالم العربي تحديات غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، فالنظام الإقليمي العربي فاقد المناعة تجاه الضغوط والتدخلات الدولية والإقليمية، وغالبية أنظمته القطرية تفتقر لاستقلال الإرادة والقرار، فيما أكثر من قطر مهدد بوحدة نسيجه المجتمعي وترابه الوطني. وقد تراجعت نسبة إسهام الأنشطة الإنتاجية، الصناعية والزراعية، مقابل ارتفاع نسبة مساهمة الخدمات والمداخيل الريعية في الاقتصاديات العربية. فضلاً عن القصور في استغلال الموارد الطبيعية والبشرية المتوفرة واستثمار عوائدها، ومحدودية قنوات الاستثمار الوطنية والعربية، مما أسهم في هجرة الأموال والعقول. ولا أدلُّ على التأخر الاقتصادي العربي من أنّ المداخيل الوطنية العربية مجتمعة لا توازي دخل هولندا أو إسبانيا. وفي معظم الأقطار العربية تراجعت نسبة وأهمية ودور الطبقة الوسطى، وتزايدت الفجوة اتساعاً بين القلة مالكة الثروة والنفوذ وبين الأكثرية الساحقة من المواطنين، وارتفعت نسب البطالة ومن هم دون خط الفقر، مما ينذر باستمرار الانفجارات الاجتماعية المطالبة برحيل الديكتاتوريات العربية.