حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين فى قطاع غزة أظهرت بعض من حالة التفكك، والتذرى فى الأوضاع السياسية العربية، وتحول غالب سياسة الدول من السلوك الفعلي المؤثر إلى محضُ خطاب سياسى يطالب بوقف إطلاق النار، أو هدن إنسانية لإرسال بعض المساعدات إلى السكان المدنيين. ثمة مصالح لبعض من دول اليسر المالى العربى ترمى إلى تصفية حركة حماس -والجهاد الإسلامي-، بوصفها زراع إيرانية فى المنطقة، بالإضافة إلى أنهما يمثلان جزءاً من الحركة الإسلامية السياسية الأصولية، وهى ما باتت تشكل أحد مصادر تهديد أمن هذه النظم السياسية العائلية. من ناحية أخرى تشكل المقاومة مثالاً على النزعات الراديكالية الدينية التى يمكن أن تؤثر علي بعض من الثقافة الدينية السائدة فى هذه البلدان، وإمكانات تشكل بعض هذه الجماعات داخل هذه الدول مع بعض الأجيال الجديدة فى الطبقات الوسطى فى هذه البلدان، وهو ما يعيد إلى الذاكرة السياسية “الدولتية” للقادة الجدد فى هذه المنطقة، جماعة جهيمان العتيبي، وتنظيم القاعدة، الذى كان جزءاً من السياسة الأمريكية، فى مواجهة الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان. كانت سياسة استخدام الإيديولوجيا الإسلامية، وتشكيل بعض من الجماعات فى بيشاور، ثم توحد بعضها، وبناء تنظيم القاعدة، أحد تمثيلات بعض السياسات البريطانية التاريخية، فى مواجهة حركات الاستقلال الوطنى على نحو ما تم فى الحالة المصرية من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين ضد حزب الوفد. استعارت الولايات المتحدة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية هذه السياسة، وتم تطبيقها فى مواجهة حركة التحرر الوطنى العربية، من خلال الحلف الإسلامى الفاشل، ثم حركة المد الإسلامى، فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، والاضطرابات التى تمت فى عديد البلدان، حتى مواجهة الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان، من خلال الدعم الأمريكى، وبعض الدول العربية لتنظيم القاعدة، ثم تحولها من نظرية العدو القريب إلى العدو البعيد، وأحداث 11 سبتمبر 2001، وغيرها من العمليات الإرهابية فى الدول الأوروبية.
تحولت السياسة الأمريكية إلى ضرورة محاصرة هذه الجماعات الإرهابية، وفى ذات الوقت تدعم بعضها كما حدث فى الانتفاضات الجماهيرية الواسعة فى تونس، ومصر، واليمن،وسوريا.
من هنا باتت هذه الجماعات فى إدراك بعض القادة الجدد فى المنطقة، أحد أخطر مصادر تهديد أمنها ومصالحها “الوطنية”. هذا الإدراك السياسى للجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية شمل المقاومة الإسلامية الفلسطينية، وتداخل معها النظرة الصراعية مع إيران فى منطقة الخليج، والمشرق العربى. لا شك أن هذا الإدراك مرجعه الخلط بين المقاومة الفلسطينية -ذات الإيديولوجيا الإسلامية-، فى مواجهة الاحتلال الاستيطانى، والحصار الإسرائيلى لقطاع غزة، وهجماته المتكررة على القطاع، وبين هذه المقاومة كسلطة حكم داخل القطاع، وبينها وبين مخاطر وصول بعض هذه الجماعات الإسلامية السياسية إلى الحكم فى بعض دول المنطقة، على نحو يشكل تهديدا لاستقرار هذه النظم السياسية من هنا يبدو تراجع بعض الاهتمام العربى بالقضية الفلسطينة، من خلال عمليات التطبيع الرسمى، أو اللا رسمى مع إسرائيل، ومن ثم التوافقات الضمنية، على تصفية حركة حماس والجهاد الإسلامى، لقطع الأيادى الإيرانية فى المنطقة، وخاصة بعد الفشل فى تصفية حركة الحوثيين فى اليمن.
لا شك أن هذا الإدراك السياسى، يمثل واحداً من أسباب انكشاف حالة التفكك العربى، واختلاف المواقف الرسمية المعلنة والخطاب السياسى الحامل لها، وبين بعض المواقف الفعلية، على نحو ما يترشح فى الإعلام التقليدى الغربى والإسرائيلى، من ناحية أخرى كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين فى غزة، عن سياسة تذرى العالم العربى، وعلى اختراق دول الجوار الجغرافى العربى -إيران وتركيا وإسرائيل- للمنطقة، ولبعض الجماعات داخلها، خدمة للمصالح الوطنية لهذه البلدان.
هذا التذرى، والانكشاف السياسى للتفكك مرجعه أزمات عمليات بناء الدولة الوطنية فى هذه المجتمعات الانقسامية -الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية والقومية، والقبائلية والعشائرية. باستثناء مصر، والمغرب. فشل بناء الدولة وهشاشة الفكرة الوطنية، يرجع إلى تغليب أباء الاستقلال وخلفاءهم لانتماءاتهم لبعض المكونات الداخلية – الدينية والمذهبية والعرقية والقومية الخ- فى التجنيد السياسى لدوائر الحكم، وأجهزة الدولة، وهو ما أدى إلى إقصاءات واستبعادات للمكونات الأخرى فى تشكيل النخب السياسية، والبيروقراطية، وتحول الدولة إلى دولة المحاسيب والقبائل والعشائر، والمذاهب والاعراق…الخ. سياسات أدت إلى فشل وضعف سياسة بناء الاندماج الوطنى بين هذه المكونات المختلفة وأدت إلى استخدام بعض الجماعات الأساسية للدين فى اندماجها الداخلى، ثم تم توظيفه سياسيا فى مواجهة النخبة السياسية الحاكمة، وتوظيفاتها السياسية للدين كغطاء لممارساتها الشمولية والعائلية والمذهبية والسلطوية.
من هنا تمت اقصاءات للأقليات، والطوائف الأخرى -المسيحية والشيعية والزيدية..الخ- على نحو أدى إلى اتساع الفجوات بين المكونات المختلفة، وخاصة فى ظل هيمنة نظام قانونى يقمع الحريات العامة، ويكرس للنظام القانوني الاستبدادى، وليس دولة القانون، والحق، ومبادئ المساواة بين المواطنين. من ناحية أخرى أدت هذه التشكيلات النخبوية والحكومات المعبرة عنها إلى غياب تطبيق فعال لمبادئ المواطنة فى النظام الاجتماعى، وفى الممارسات السياسية للنخب السياسية الحاكمة.
من هنا غابت الثقافة السياسية الديمقراطية التى تكرس ثقافة المواطنة، وهو ما ساعد -ضمن أسباب أخرى- إلى تمحور ثقافة الجماعات التكوينية حول الإيديولوجيا الدينية، وفتح المجال لتغلغل بعض هذه الجماعات الإسلامية السياسية، والراديكالية داخل بعض أعضاءها، وذلك كأداة للاعتراض السياسى، ومواجهة سلطة المتغلب السني.
لا شك أن ذلك فتح المجال أمام دول الجوار الجغرافى العربى لاسيما إيران إلى التغلغل ودعم بعض هذه الجماعات التكوينية- الشيعية وبعض السنية – لبناء مكانتها ودورها الإقليمى.
أن سياسة التطبيع أدت إلى اعتماد حركة حماس على النظام الإيرانى -فى التدريب، والتسليح وتصنيعه، والتخطيط وبعض التمويل -، وذلك في مواجهة حالة اللا مبالاة لدى بعض دول اليسر المالى العربى، للقضية الفلسطينية، والسعى الحمساوى -مع الجهاد وجماعات صغيرة كا الشعبية- لإعادتها إلى واجهة المشهد السياسى الإقليمى، على نحو ما قامت به من مواجهات مع الجيش الإسرائيلى، قبل طوفان الأقصى، التى شكلت ذروة هذه المواجهات، والحرب المستمرة على القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، حتى هذه اللحظة، دونما حسم نهائى من جانب جيش العدوان على تصفية الحركة التى تحولت إلى جزء من ثقافة مقاومة الشعب الفلسطيني، وتكوينه الاجتماعي التقليدي المحافظ فى مواجهة الحصار البرى والجوى والبحرى، وسياسة العقاب الجماعى، والإبادة التى تمارسها إسرائيل.
لا شك أن السياسة العدوانية الإسرائيلية، والدعم الأمريكى والأوروبى لها عسكريا وسياسيا وديبلوماسيا واقتصاديا، ترمى إلى استمرارية تفكك العالم العربى، ومحاولة تهميش القضية الفلسطينية لإقامة حالة من التطبيع بين دول اليسر المالى العربى، وإسرائيل، وتغليب هذه الدول وبعض قادتها لمصالحهم الوطنية كأولوية أساسية، وتحويل القضية الفلسطينية إلى جزء من القضايا الإقليمية العالقة ضمن القضايا الأخرى، ومن ثم استبعادها كقضية العرب المركزية. من هنا لم نجد ضغوطا تمارس من خلال الإمكانات المتاحة لبعض هذه الدول إزاء الولايات المتحدة، وبريطانيا، والدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل، وأيضا إزاء الحكومة الهندية اليمينية التى تمارس سياسة عداء للأقلية الهندية المسلمة فى التركيبة المجتمعية الهندية، ومن ثم دعمت وأيدت الحكومة اليمينية الهندوسية المتطرفة إسرائيل ومذابحها لإبادة الشعب الفلسطينى رغم حجم العلاقات الاقتصادية مع الهند، وحجم العمالة الهندية الكبيرة فى منطقة الخليج العربى.
من هنا شكلت الحرب على قطاع غزة، حالة انكشاف شاملة للسياسات العربية، وأزماتها الداخلية والإقليمية، وذلك على الرغم من خطاباتها السياسية المعلنة حول حل الدولتين الغامض فى التصور الأمريكى والأوروبى، والمرفوض من الحكومة الإسرائيلية اليمينية، وأيضا من الأحزاب السياسية المعارضة لها.
أن انعكاسات حرب الإبادة الإسرائيلية، سوف تؤدى إلى بعض الانعكاسات على هذه الدول، وسياساتها الداخلية، فى الأجلين المتوسط والطويل.
المصدر: الاهرام
الحرب المتوحشة القذرة لدرجة الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال الصhيوني وبدعم غربي بقيادة أمريكية كشفت مدى تخاذل الانظمة العربية تجاه شعبنا الفلسطيني ؟ إن لم تستطيعوا ان تساعدوا شعبنا لتجاوز محنته جراء هذه الحرب على الأقل أن لاتقفوا لجانب المحتل المارق وضد شعبنا، قراءة موضوعية .