سلط المحلل الأمريكي، كولن بي كلارك، الضوء على مؤشرات تحول الحرب في غزة من النمط التقليدي إلى “حملة إسرائيلية لمكافحة التمرد”، مشيرا إلى أن هذا التحول سيعتمد على قوات العمليات الخاصة والضربات الدقيقة والغارات المستهدفة، على أن “يحتفظ الجيش الإسرائيلي بالأراضي بعد تطهيرها من مقاتلي حركة حماس”، حسب تعبيره.
وذكر كلارك، في تحليل نشره موقع “فورين أفيرز” وترجمه “الخليج الجديد” أن هذا التحول الإسرائيلي يأتي عملا بنصيحة الجنرال الأمريكي المتقاعد، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، ديفيد بترايوس، لكن تنفيذه ينطوي على تهديدات محدقة.
فالأبحاث التي أجريت حول حملات مكافحة التمرد السابقة تشير إلى أن مثل هذا النهج في غزة من شأنه أن يؤدي إلى “مستنقع” يمكن أن يمتد لسنوات عديدة، بحسب كلارك، موضحاً أن هكذا سيناريو سيمكن حماس من “التكيف” مع واقعها الجديد من خلال الاعتماد على شبكة أنفاقها تحت الأرض، واستخدام البنية الأساسية المدمرة لصالحها، ما يسهل استهداف الجنود الإسرائيليين الذين يقومون بدوريات راجلة.
سيناريو الكارثة
ووصف كلارك تطبيق رؤية بترايوس لمكافحة التمرد في غزة بأنها “ستكون بمثابة كارثة بالنسبة للجيش الإسرائيلي”، موضحا: “سيتهم الفلسطينيون وغيرهم إسرائيل بإعادة احتلال غزة، كما ستزيد الغارات ونقاط التفتيش من تطرف المدنيين، وسيؤدي ذلك إلى تهميش الأصوات الفلسطينية المعتدلة، وإلهام انتفاضة بعيدة المدى، وتحفيز محور المقاومة لشن هجمات على أهداف في إسرائيل وأماكن أخرى”.
ويعني ذلك أن أي حملة لمكافحة التمرد في غزة من شأنها، بدلا من إنهاء العنف، أن تنتج “حربا لا نهاية لها”، بحسب تعبير كلارك، الذي نوه إلى أن نهاية الحرب الإسرائيلية في غزة لاتزال مجهولة، لكن سيناريو “الاحتلال المقترن بمكافحة التمرد” ربما يكون الفصل التالي في الصراع، كما تدل على ذلك تصريحات القادة الإسرائيليين.
واستند كلارك في ترجيحه إلى تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن الحرب على حماس لن تنتهي حتى تحقق إسرائيل جميع أهدافها، وتأكيد وزير الجيش، يوآف جالانت بأن الحملة العسكرية “ستستمر طالما كانت ضرورية”، وإشارة رئيس الأركان، هرتسي هاليفي، إلى أن الحرب في غزة ستستمر “لعدة أشهر”.
لكن كلارك يحذر من أن تبني إسرائيل لنهج “مكافحة التمرد” قد يحول “الأشهر” بسهولة إلى “سنوات”، مشيرا إلى أن الانجراف وراء هكذا سيناريو قد يحدث حتى من دون تعمد الدولة العبرية، كما حدث للولايات المتحدة في فيتنام والعراق وأفغانستان.
ويوضح كلارك أن الانجراف الأمريكية في الدول بدأ بتوسيع المهام من أهداف محدودة إلى أخرى أكثر غموضا وأكثر طموحا، ففي أفغانستان، على سبيل المثال، بدأت الحرب بنية تدمير تنظيم القاعدة، لكن واشنطن وجدت نفسها في نهاية المطاف تحاول القيام ببناء الدولة، وفي النهاية فشلت في تحقيق كلتا المهمتين.
ولا يستبعد كلارك أن تواجه إسرائيل “مستنقعا” كالذي جرى بأفغانستان في غزة، والذي يمكن أن ينتهي بطريقة مشابهة لما واجهته في جنوب لبنان، حيث انسحبت القوات الإسرائيلية بعد عقدين من الزمن دون إزالة تهديد مقاتلي حركة التحرير الفلسطينية، بل ومع ظهور عدو جديد يتمثل في حزب الله.
ويلفت كلارك، في هذا الصدد، إلى أن سيناريو الحرب الممتدة ربما يكون محققا لـ “حافز شخصي” لدى نتنياهو في ظل الاستطلاعات التي تظهر رغبة الإسرائيليين في قيادة سياسية جديدة، ما دفعه لإعلان أهداف من قبيل “تدمير حماس ونزع سلاح غزة واستئصال التطرف في المجتمع الفلسطيني”، وهي أهداف يتطلب تحقيق أحدها سنوات من القتال، كما أن نجاحها غير مضمون في النهاية.
الصبر ينفد
وفي المقابل، بدأ صبر بعض أعضاء القيادة العسكرية الإسرائيلية في النفاد بسبب عدم وجود نهاية سياسية متماسكة للحرب، ولذا أعرب جالانت عن إحباطه لعدم وجود خطة لما يبدو عليه الصراع، قائلا: “من واجب مجلس الوزراء والحكومة مناقشة الخطة وتحديد الهدف”.
ويلفت كلارك، في هذا الصدد، إلى أن تبنى الجيش الإسرائيلي لنهج مكافحة التمرد في غزة يعني أنه سيكون على خلاف مباشر مع التوصيات السياسية لإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، التي حذرت من احتلال غزة بعد الحرب، وتضغط لتقليص الحملة العسكرية بسبب مقتل أكثر من 27 ألف فلسطيني، معظمهم نساء وأطفال.
وسبق أن حذر وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، من هكذا سيناريو قائلا: “في هذا النوع من القتال، يكون مركز الثقل هو السكان المدنيون. وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية”.
ولأن إسرائيل ليست لديها إستراتيجية سياسية محددة لما سيحدث بعد الحرب، خاصة أن نتنياهو يعارض فكرة استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة على غزة، خلافا لموقف إدارة بايدن، يرجح كلارك أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى القيام بدوريات في غزة مقابل استعداد حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية لصراع طويل الأمد ومنخفض الحدة، تواجه إسرائيل خلاله “هجمات كر وفر وكمائن مميتة وقناصة يعملون من تحت أنقاض المباني المهدمة”.
ويرى كلارك احتلال الجيش الإسرائيلي لغزة وانتقاله إلى نهج “مكافحة التمرد” في مصلحة حماس التي تستند استراتيجيتها إلى محاولة إرهاق جيش الاحتلال حتى يطالب الجمهور الإسرائيلي بالانسحاب، وعندئذ تعلن الحركة الفلسطينية النصر، تماما كما جرى مع الجيش الأمريكي في أفغانستان.
ويضيف أن إصرار إسرائيل على تجاهل كسب “القلوب والعقول” عبر تجاهل نتنياهو وحلفائه اليمينيين المتطرفين لجوانب الصراع السياسية، يقدم لحماس فرصة لملء فراغ السلطة وترسيخ نفوذها في غزة.
وكان من المفترض أن تعي إسرائيل هذا الدرس من تجربتها في لبنان، ومن احتلالها السابق لغزة، لكن العناصر اليمينية المتطرفة في حكومة نتنياهو تتمتع بنفوذ هائل، وتدفع إلى التفكير في احتلال غزة إلى أجل غير مسمى بحجة غياب حكومة فلسطينية مناسبة.
خيار جذاب
وإزاء ذلك، يرى كلارك أن على إسرائيل، إذا تبنت استراتيجية “مكافحة التمرد”، أن تستعد لحرب طويلة المدى، وأوضح أن بحثا قام به بالتعاون مع عدد من الباحثين في مؤسسة “راند”، على كل حركات التمرد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 2009، وعددها 71، أظهر أن متوسط طول هذه الصراعات 10 سنوات، خاصة في ظل وجود دولة راعية للتمرد، في إشارة إلى إيران.
وأظهر البحث ذاته أن الجيوش التي تبنت نهج “القبضة الحديدية” لمكافحة التمرد بالتركيز على قتل المتمردين حصرا كانت ناجحة في أقل من ثلث الحالات التي تم تحليلها.
لكن “مكافحة التمرد” تبدو خيارا جذابا بالنسبة لقادة إسرائيل، لأنها تسمح لهم بتأجيل القرارات السياسية الصعبة والتركيز بدلا من ذلك على الانتصارات العسكرية قصيرة المدى، بحسب كلارك، مشيرا إلى أن هذا النمط من التفكير هو ذاته الذي وضع إسرائيل في مأزقها الحالي عبر رفض السياسيين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، باستمرار لأي تسوية مع الفلسطينيين.
المصدر موقع فورين أفيرز ترجمة وتحرير الخليج الجديد
هل نجحت قوات الكيان الصهيوني بحربها على شعبنا في غزة وفق توصيات “ديفيد بترايوس” بأن تكون الحرب بحملة مكافحة التمرد بالإعتماد على قوات خاصة مدربة وضربات دقيقة وغارات مستهدفة والاحتفاظ بالأرض المحررة ؟ أم إن مخاطر هذه الحملة مع وجود الأنفاق أفقشلتها وجعلت الإنقسام وغياب الأفق السياسي للحرب لدى القيادة الصهيونية هو النتيجة قراءة موضوعية .