على مدى العام الماضي، وبينما كان الدبلوماسيون الغربيون يتنقلون بشكل محموم من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر في غمرة كفاحهم لاحتواء سلسلة متزايدة من الحروب والأزمات وغيرها من الكوارث، من أوكرانيا إلى دارفور إلى ناغورنو قره باغ إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، عملت الصين على رعاية الفوضى من أجل توظيفها لمصلحتها. فالهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، والحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة أتاحا لبكين استغلال أزمة أخرى. وفي حين أن الولايات المتحدة تشوه سمعتها لدى دول العالم الثالث (الجنوب العالمي)، بدعمها غير المشروط لإسرائيل، قامت بكين بدراسة استجابتها للحرب وضبطها بعناية، في وقت خصت فيه الرأي العام في العالم النامي باهتمام قريب.
وكنت قد حذرت، في مجلة “فورين أفيرز”، قبل ستة أشهر، من أنه بينما يسعى الغرب في الحفاظ على نظام دولي يقوم على قواعد، من خلال إدخال تعديلات طفيفة على بعض عناصره، ودعوة إلى مشاركة عدد قليل من الدول الفاعلة الإضافية، يخطط الاستراتيجيون الصينيون أكثر فأكثر للبقاء في عالم من دون نظام. وهم يقترحون مساعدة الدول الأخرى على بناء سيادتها، ومزاولة التمتع بحرية المناورة مع انحسار الهيمنة الغربية.
وحاولت إدارة بايدن، منذ شنت “حماس” هجومها، التوفيق بين الدعم العام لإسرائيل والضغوط التي تمارسها عليها في سبيل توجيه هجماتها في غزة بشكل أشد دقة، ولكي تبدي انفتاحاً على تسوية سياسية مع الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، كانت الحاجة إلى التوازن تفرض على بكين قيوداً أخف كثيراً من القيود على واشنطن. ومن خلال الدعوة إلى حل الدولتين، ورفض إدانة “حماس”، وبذل جهود رمزية لدعم وقف إطلاق النار، استغلت الصين المشاعر العالمية المعادية لإسرائيل في محاولة تعزيز مكانتها هي في إطار الجنوب العالمي. وتنتهج الصين، في مساعيها المضنية من أجل التعبير عن الرأي العام العالمي تعبيراً مطابقاً ودقيقاً، إلى أقصى درجة ممكنة، وتتبع استراتيجية أوسع أفقاً، وتحتضن الحرائق العالمية التي تربك صناع السياسات في الغرب.
كلمات مراوغة
وعلى مثال الذكاء الاصطناعي، وتحسين استجابته لكل موجة جديدة من البيانات التي يدرب عليها، تتيح كل أزمة عالمية جديدة للصين فرصة جديدة لصقل خطابها الموجه إلى الجنوب العالمي وضبطه. وفي ضوء ذلك، فإن المقارنة بين رد الصين على الحرب في غزة وردها على الحرب في أوكرانيا، أمر مفيد.
وعندما غزا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، استغرق الصين بعض الوقت إلى حين أن استطاعت استيعاب ما كان يجري، وتشعر بأنها قادرة على التعاطي معه. وتخبطت في استجابتها الأولية، وانتظرت مدة قبل أن تصدر عنها تصريحات مربكة للمتلقي إلى حد ما. وأكدت بكين في معظم رسائلها سيادة أوكرانيا الإقليمية. وسعت في التشديد على علاقتها الوثيقة بروسيا، واعترفت بحقيقة “مخاوف أمنية معقولة” روسية، وانتقدت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو). وتعمدت بكين الغموض حرصاً على مراعاة الأطراف كلها، وقامت بذلك على نحو أخرق.
ولكن في أثناء الوقت الفاصل بين الهجوم الروسي ووقت شنت فيه “حماس” هجومها الوحشي على إسرائيل، كانت بكين بلورت نهجها، ووسعها الاستجابة السريعة. وحين اتضح أن كفة الرأي العام في الجنوب العالمي مالت ضد إسرائيل، أرادت الصين، على الفور، الاستفادة من الأزمة، وفضح ما تعتبره معايير أميركية مزدوجة. وفي الثامن من أكتوبر، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً يدعو إلى وقف إطلاق النار، ويؤيد حل الدولتين، لكن البيان لم يتضمن انتقاداً، ولو ضعيفاً، لـ”حماس”، أو إدانة للمجزرة التي نفذتها، على رغم أن أربعة من ضحايا العملية الإرهابية كانوا مواطنين صينيين.
وقامت الباحثة توفيا غيرينغ بتوثيق تعاظم نبرة الخطاب المناهض لإسرائيل، والمعادي للسامية في بعض جوانبه. وهو خطاب يشجعه الحزب الشيوعي الصيني، ويبثه في القنوات الرسمية وغير الرسمية، رداً على الحرب. وفي أواخر أكتوبر، أعلنت صحيفة “تشاينا دايلي”، وهي وسيلة إعلامية دعائية، أن “الولايات المتحدة تقف في غزة في الجانب الخطأ من التاريخ”. وفي موضع آخر، نشر التلفزيون الحكومي الصيني إشاعة كاذبة، كان أحد مراسليه أطلقها قبل بضع سنوات، ومفادها أن اليهود يمثلون 3 في المئة من سكان الولايات المتحدة، ولكنهم “يسيطرون على أكثر من 70 في المئة من ثروتها”.
وينبغي حمل هذا الصنف من اللغة على محاولة واعية تكرر السرديات التي تهيمن على الخطاب الشائع في الجنوب العالمي. وهذا التكرار يماشي رأي الغالبية في بعض دول الجنوب، وهو يتيح للصين أن تقدم نفسها بديلاً لصورة أميركا الداعية إلى الحرب، والمهيمنة والمنافقة.
ويتفق خطاب الصين المناهض لإسرائيل مع مضمون حراكها الدبلوماسي. ففي الـ20 من نوفمبر (تشرين الثاني)، طافت مجموعة من وزراء الخارجية العرب على الدول الأعضاء الدائمين في مجلس أمن الأمم المتحدة. وكانت بكين محطتهم الأولى. وكان في استقبالهم وزير الخارجية الصيني، وانغ يي. ولا شك في أن اختيار السفر شرقاً، قبل لقاء فرنسا والمملكة المتحدة، كان متعمداً. وقد يقرأ هذا الاختيار كدليل على تعاظم نفوذ الصين في الشرق الأوسط. وعلى رغم أن الاجتماع في بكين لم يسفر عن نتائج ملموسة، ولا يبدو أن الهدف منه كان بلوغ نتائج معينة، وهو كان وسيلة استعملتها الدول العربية للإعلان عن أنها تملك خيارات كثيرة غير خيار الولايات المتحدة. ولا شك في أن الصين تستمتع بأداء دور الشريك البديل.
السعي إلى استمالة الجمهور
ومنذ بداية الحملة العدوانية الإسرائيلية في غزة، وهي حملة أيدتها إدارة بايدن إلى حد بعيد، تعمقت حال عدم الثقة في الولايات المتحدة، في كل أنحاء العالم العربي. وتظهر استطلاعات الرأي أن الجماهير العربية باتت الآن تفضل الصين على الولايات المتحدة. وهذا جزء من انعطاف مديد، ولكنه يتفاقم بسبب الحرب في غزة. وأظهرت استطلاعات رأي، أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (وأنا مديره)، في خريف عام 2023، في ثماني دول رئيسة غير غربية، هي البرازيل والصين والهند وإندونيسيا وروسيا وتركيا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا، أن الصين، على خلاف القوى الغربية، هي أكثر مماشاة للرأي العام في الجنوب العالمي. وسواء وثقت الصين في احتمال فوز روسيا في حربها مع أوكرانيا، أم في احتمال انهيار الاتحاد الأوروبي، أو في تصدع الديمقراطية الأميركية، فإن المواقف الرسمية الصينية تولي اهتماماً قوياً إلى التعبير عن مشاعر المواطن البرازيلي أو التركي العادي.
ومحاولة الصين التعبير عن الرأي العام العالمي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هي جزء من استراتيجية أوسع كثيراً، وتهدف إلى كسب تأييد الجنوب العالمي. فهي تدعم أولاً الحروب في أوكرانيا وغزة بذريعة أن العالم تسوده فوضى تفوق كل فوضى سابقة. وترى بكين أن تأييد الولايات المتحدة للحملة الإسرائيلية في غزة يدل على قيام نظامها على قواعد تتبجح بها على الدوام، وهي مجرد خدعة الغاية منها خدمة مصالحها الأنانية. وفي حين سارعت الولايات المتحدة إلى إدانة جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، ومعاملة الصين للإيغور، ظلت صامتة عندما واجهت ما اعتبرته بقية دول العالم سلوكاً مماثلاً من جانب إسرائيل (سواء استند هذا المفهوم إلى حقائق أم لم يستند).
وحضرت هذه الاستراتيجية في الـ20 من نوفمبر، عندما شارك الزعيم الصيني، شي جينبينغ، في قمة افتراضية لمجموعة “بريكس”، تناولت موضوع الحرب في غزة. وضم الاجتماع الأعضاء الأصليين في الكتلة، أي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، إلى الدول التي التحقت بها أخيراً، وهي الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وكانت القمة محاولة واضحة لتقديم هذا التجمع نفسه بديلاً جديداً للهيئات الغربية، مثل مجموعة السبع. وعلى شاكلة الاجتماع العربي بوانغ فاق ظاهر الاجتماع أهمية جوهره، ومرة أخرى، لم تقترح المجموعة خطوات عملية تؤدي إلى لجم العنف، سواء في المدى القريب أو في المدى البعيد.
وفضلاً عن ذلك، يشكل موقف الصين من الحرب في غزة محاولة لاستغلال عزلتها النسبية. فللصين حليف واحد في العالم كله، أبرمت معه معاهدة، هو كوريا الشمالية. وفي الشرق الأوسط، كانت الولايات المتحدة ثابتة في التزامها بأمن إسرائيل، منذ حرب يوم الغفران عام 1973. وعلى خلافها، تتمتع الصين بالحرية في انتقاء شركائها في المنطقة. وفي كل مرة تعتمد على قضية ذات علاقة. فتقوم مثلاً، بشراء النفط الإيراني، وتتعاون في مجال تكنولوجيا الصواريخ الباليستية مع دول أخرى، أو تلتزم إنشاءات البنية التحتية في سوريا، في أثناء محاولتها ربط تركيا بمبادرة الحزام والطريق. وجراء هذه الحرية النسبية، تمكنت الصين من تقديم الجانب الأدائي والعملي في استجابتها للحرب في غزة على أي أمر آخر. وهي، على خلاف الولايات المتحدة، لا حليف قديماً لها يتهمها بالخيانة.
وأخيراً، خلافاً لما يعتقده كثيرون في واشنطن، لا تحاول الصين توحيد هذه البلدان في حلف مناهض للغرب تتولى هي قيادته. وفي حين تبدي الولايات المتحدة رأيها عالياً في الكيفية التي ينبغي بها للدول الأخرى أن تماشي بها مواقفها، وتتبع القواعد العالمية، تقدم الصين نفسها في صورة نصيرة “عالم متعدد الحضارات”، وشريكة في التنمية والسيادة. والحق أن الميزة التي تجعل المعاملة مع الصين جذابة هي، على وجه التحديد، تخليها عن إجبار الدول الأخرى على اختيار أحد الطرفين، في عالمنا الذي يعاني التشرذم والتشتت.
ومرة أخرى، تماشي الصين، إلى حد كبير، الرأي العام العالمي. وبحسب استطلاع أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في الدول الكبرى غير الغربية، في ديسمبر (كانون الأول) 2022 ويناير 2023، لا تعتقد غالبية كبيرة أن بلدانها ستضطر إلى الاختيار بين الصين والولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، يتوقع 14 في المئة فقط من الهنود ظهور عالم ثنائي القطب، في غضون 10 سنوات، قد يضطرون فيه إلى الاختيار بين الكتل التي تهيمن عليها الصين والولايات المتحدة. لذا، على رغم أن الولايات المتحدة تطالب بلداناً تجد نفسها عالقة بينها وبين الصين، بأن تنحاز إليها، جعل عدم [التماس] الانحياز، كما هو ملحوظ، الصين الشريك المفضل للاستثمار في البنية التحتية والتنمية الاقتصادية في أنحاء كثيرة من العا
نظام بلا صدقية
وفي إطار محاولاتها احتواء الحرب بين إسرائيل و”حماس”، طورت إدارة بايدن استراتيجية تقوم على احتضان إسرائيل عن قرب، وتكرار التأكيد، على الدوام أن دعمها الدولة اليهودية، والامتناع عن انتقادها علناً، إنما هو في سبيل التأثير في طريقة خوضها الحرب. ومع ذلك، تشجع إدارة بايدن نفسها، في السر والعلن، حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على تطوير استراتيجية عسكرية واقعية في غزة، ومراعاة القانون الدولي، وبذل مزيد من الجهد للتخفيف من الأزمة الإنسانية التي تشهدها غزة. ومن خلال المثابرة على تعاملها مع الوضع، على رغم صعوبته، يبدو أن الإدارة تهيئ نفسها للعب دور الوسيط في عملية سياسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وجيرانهم العرب بعد أن ينحسر العنف.
وينبغي أن يأمل الجميع في نجاح هذه الاستراتيجية. ولكن، في محكمة الرأي العام العالمي، كانت الحدود التي لا يستطيع النهج الأميركي أن يتخطاها، ومدى تأثير بايدن في نتنياهو، لافتة للنظر. ومع كل ضحية مدنية تسقط جراء غارة جوية إسرائيلية، تبدو الحجج التي يتذرع الغرب بها دفاعاً عن نظام قائم على القواعد، في الجنوب العالمي، شديدة الخواء. وقد يكون لهذا عواقب دائمة على أوكرانيا، وهي تستمد مشروعية كفاحها من طبيعة العدوان الروسي التي تنتهك النظام. وإذا اتخذ شي جينبينغ، في وقت ما في المستقبل، القرار المصيري بغزو تايوان، فمن المؤكد أنه يأمل في أن يؤدي موقفه من حرب غزة إلى ترجيح اصطفاف الجنوب العالمي خلف بكين فوق اصطفافه وراء واشنطن.
*مارك ليونارد هو أستاذ كرسي هنري كيسنجر للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية في مكتبة الكونغرس، ومدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب “عصر اللا سلام”.
مترجم من فورين أفيرز، 8 يناير (كانون الثاني) 2024
المصدر: اندبندنت عربية