لارا زياد المحمّد روائية سورية واعدة، تنتمي للثورة السورية، روايتها لوحات هاربة من الموت أول عمل أدبي اقرؤه لها…
يعتمد سرد الكاتبة لارا على لغة المتكلم في روايتها، وتبدأ الأحداث في روايتها من عام ٢٠١٧م. حيث كانت تسكن نوال الشخصية المحورية للرواية في حي الوعر الحمصي. وهو تحت الحصار والقصف من قبل النظام السوري الذي كان قد اعتمد العنف واستعمال جميع أنواع الاسلحة في مواجهة ثورة الشعب السوري التي اندلعت في ربيع عام ٢٠١١م…
نوال في بيتها في حي الوعر تتابع على التلفزيون برنامجا يوثق من خلاله فنان تشكيلي يتحدث كخلفية لشرح لوحات يسترجع فيها لقطات في حي الحاضر في حماة عام ١٩٨٢م أيام اجتياح النظام السوري لحماة على خلفية صراعه مع الطليعة المقاتلة والاخوان المسلمين. وما نتج عنه من مذابح وتهجير وتدمير أحياء كثيرة في حماة منها حي الحاضر ذاته…
تستغرق نوال في متابعة اللوحات وفي سماع صوت الفنان دون ظهور صورته. يبدو أن اسمه المذكور ليس اسمه الحقيقي. انها تحس ان هذا الصوت حميمي جدا بالنسبة لها. وكذلك اللوحات تتحدث عنها وعن حبيبها وعن بيتهم والحي الذي سكنوه. انه حبيبها وزوجها الذي انقطعت أخباره عنها منذ اجتياح سرايا دفاع النظام السوري للحي وقتل كل من فيه…
تعود نوال بعد ذلك لتذكّر حياتها منذ ثلاثة عقود تقريبا ايام نشأتها في حي الحاضر، هي الفتاة الحموية وحيدة والدها. الذي تفرغ لها بعد موت امها وعاش معها في بيتهم. كان يسكن في البناء جار آخر لهم يمثل العقلية الذكورية المهيمنة على عائلته، زوجته التي تمثل المرأة المطيعة التي تحاول دائما خلق جسور تعايش وتفاهم وترميم لأجواء العائلة كلها. الابن الأكبر للعائلة يرسله والده الى روسيا لدراسة الطب. فلا ينجح بذلك لكنه يتابع ما يهوى في البحث العلمي. يذهب ويستقر هناك. الاخ الاوسط، يتمثل شخصية والده المتنمرة الذكورية. خاصة على اخته كما لدى العائلة اخ اصغر يمثل النموذج المنكفئ على ذاته. في اعماقه فنان يحاول أن ينميه تأثر بخاله الفنان التشكيلي. ..
تتولد داخل نوال وذلك الشاب الخجول عاطفة تنمو. تساعد اخته على خلق تواصل عبر الرسائل والتحدث بين الحبيبين، وذلك في مجتمع متزمت مغلق على هكذا علاقات…
كان الاخ المتوسط نموذجا للشاب الذي التزم دينيا بطريقة فجّة و عدوانية. تناقضت مع تدين خاله ووالد نوال. كان قاسيا على اخته. التي اكتشف ان هناك من كتب لها رسالة حب، حاول الاساءة لها، ووقعت على درج بيتها واصيبت برأسها وسرعان ما ماتت في المشفى. لم يرتدع ذلك الأخ غاب فترة وعاد إلى اهله وتزوج واستمر يواظب على ارتياد الجامع واللقاء مع شباب اغراب عن الحي، سرعان ما تبين انه ينتسب الى الطليعة المقاتلة التي بدأت القيام بعمليات اغتيال شخصيات من النظام، وكان النظام قد استثمر ذلك ليقوم بحربه الشاملة على الإسلاميين والقوى الوطنية الديمقراطية في أغلب سوريا وفي حماة بشكل أساسي…
كانت زوجة هذا الأخ قد انجبت له طفلا وهو وزوجته في المشفى برعاية نوال. التي كانت قد أكملت دراسة التمريض وأصبحت موظفة في المشفى. وكانت قبل ذلك قد تزوجت من حبيبها الذي صرح لها بحبه وطلبها للزواج وبدأوا حياة سعيدة…
كانت أحداث الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة ترخي بظلالها على نوال وعائلة زوجها. فقد حضر الأمن وطلب اخو زوجها للأمن. وهو كان قد توارى منذ فترة. وعندما علم بذلك لم يعد يحضر ابدا الى الحي. لكن النظام كان قد أخذ قراره باجتياح حي الحاضر حيث دمره وقتل واعتقل كل من فيه. كانت نوال في المشفى أخبرهم رئيسها بما يحصل وهكذا هربوا من المشفى واخذت معها ابن شقيق زوجها الوليد الصغير إنقاذا له من موت محقق. وتوجهت خارج حماة إلى القصير حيث يسكن عمها هناك. وصلت بعد عناء. وعلمت بعد ذلك ان لا ناجين من كل سكان الحاضر. فقدت زوجة اخيها ام الطفل و ابوها وابو زوجها وأمه وزوجها ايضا ولم يبق لها الا هذا الطفل الذي قررت تسجيله باسمها واسم زوجها. أطلقت عليه اسم غيث وعاشت معه في القصير اولا ثم في حي الوعر في حمص حيث استقرت هناك قريبة من عمها…
توالت السنين وكبر غيث واخبرته نوال بقصته وأنه ليس ابنها. لكنه لم يتغير اتجاهها ابدا. كان في أيام الثورة السورية عام ٢٠١١م قد أصبح شابا. درس الحقوق وأصبح محاميا. كان من ناشطي الثورة تم اعتقاله لفترة من الزمن عايش أجواء الاعتقال التعذيب والاساءة والاهانة والقتل أحيانا. كان ممتلئا بما حصل في حماة سابقا. وعندما حدثته أمه عن البرنامج التلفزيوني واحتمال ان يكون عمه زوجها الذي فقدته منذ اجتياح حماة منذ ثلاثة عقود. صار يبحث عن هذا الناجي لعله يكون عمه…
تعرف غيث في الجامعة على زميلته. واحبا بعضهما وتزوجا بمباركة امه نوال وامها حيث كان والد حبيبته قد توفي سابقا…
استمر الحصار على حي الوعر كذلك القصف والتدمير والقتل العشوائي. حيث طال المنزل الذي يسكن فيه غيث وأمه وزوجته وأمها. هو وامه كانوا خارج البيت. أما زوجته وامها كانوا داخل البيت الذي تدمر وقتلوا فيه…
لم يكن أمام نوال وابنها غيث الا المغادرة مع من غادر حي الوعر الحمصي من الثوار وعائلاتهم. وانتقلوا بعد ذلك في المخيمات في المناطق المحررة في الشمال السوري. وكادوا ان يصابوا في القصف عليهم في أحد المخيمات. كان أمامهم خيار الذهاب الى تركيا. بحثا عن الامان. حيث لا يمكن العودة إلى مناطق سيطرة النظام. كان غيث مطلوب للنظام وإن قبض عليه يقتله. ومع ذلك عادوا نوال وغيث الى حمص ووجدوا حي الوعر مدمر ولا يمكن الحياة فيه. ومرة أخرى قرروا الهجرة واللجوء إلى تركيا. دفعوا لأحد المهربين ووصلوا الى مدينة الريحانية التركية وهناك استقروا حيث كان قد وصل بعض ممن سبقهم من اقاربهم واصدقائهم…
لم تمت في ذات نوال امنية ان يكون الفنان هو زوجها. وأن تحلم بلم الشمل معه. حيث زاد تعلقها بالأمل أنه تحدث عن قصته وأنه من حماة من حي الحاضر وأنه اعتقل عند اجتياح الحي في عام ١٩٨٢م. وان نقل لأكثر من مركز امني ثم وضع في تدمر في زنزانة استمر ذلك لسنوات طويلة وانه نقل مع آخرين لاحد المراكز الامنية في دمشق عام ٢٠١٣م. وعندما علم بذلك اذهل لقد سجن أكثر من ثلاثة عقود. وعندما ازدادت قوة الثوار حول السجن ذلك بجوار القابون. هرب السجانين وخرج صاحبنا مع السجناء من السجن ناجين بأرواحهم. ثم اختفى في دمشق والتقى بمن احتضنه وساعده للسفر إلى خارج سوريا…
تابعت نوال على التلفزيون أنه سيقام معرض للوحات الفنان في اسطنبول. علم غيث بذلك اخبر امه وقرروا الذهاب لحضور المعرض والتعرف عليه لعله حبيبها الغائب…
وصلوا الى المعرض. بحثت نوال عنه بين الحضور الكثيف ولم تلتقي بحبيب عمرها وزوجها بينهم. وبعد وقت أعلن عن حضوره الى المنصة ليتحدثوا معه. عندها تابعت نوال ترقب ذلك الرجل. وعندما لمحته وجدته هو حبيبها الذي افتقدته لثلاث وثلاثين عاما…
التقت العيون والقلوب والأكف وحصل عناق يحتاجه الحبيبين منذ سنوات كثيرة…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
في الجانب الأدبي والصياغة والاستحضار للماضي والتداخل بين الازمان. وعمق المشاعر وصدقها. خلق جسرا نفسيا انسانيا بين القارئ والكاتبة صانعة الرواية. وهذا مهم في العمل الروائي حيث تنجح الرواية عندما تدخلنا في حميميتها وصدق ما تطرحه وعمق دخوله في عوالم الحياة والنفس والمجتمع والحوادث التي تسوقها…
كما نجحت الرواية في استعادة زمنين مهمين متكاملين في سوريا. ثورة السوريين في الثمانينات التي طالبت أيضا بإسقاط الاستبداد وتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية في سوريا. كما دانت الرواية موقف الطليعة المقاتلة العنفي والطائفي. التي قدمت للنظام مبرر العنف العاري للقضاء على حراك الشعب السوري وقتها. لكن ذلك لا يبرر ما فعله النظام فهو يقتل ويدمر سوريا وكل معارضيه و حاضنتهم سواء وجدت الطليعة المقاتلة أم لا. دليل ذلك ما فعله النظام في الثورة السورية الشعبية السلمية التي بدأت في ربيع عام ٢٠١١م وتم مواجهتها بالعنف والسلاح. قتل وتدمير وتشريد واعتقال للسوريين…
حوالي المليون ضحية ومثلهم معتقل ومصاب ومعاق. نصف الشعب السوري أكثر من ثلاثة عشر مليون نسمة مشردين خارج وداخل سورية. سوريا اغلبها مدمر وبنيتها التحتية تراجعت لعقود. سوريا محتلة من الأمريكان والروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية. فيها بعض المناطق المحررة شمال غرب سوريا. وفيها مشروع كيان انفصالي كردي بسيطرة حزب العمال الكردستاني ممثلا بقوات سوريا الديمقراطية وال ب ي د شرق الفرات وشمال غرب سوريا برعاية أمريكية…هذه سورية التي بقيت نتاج هذا النظام المستبد المجرم.
لماذا لم تشر إلى دار النشر أستاذ أحمد؟