لم تكن عملية طوفان الأقصى، الأولى في تاريخ المقاومة الفلسطينية في غزة، ولن تكون الأخيرة. فاذا هز الطوفان الأسس التي يستند عليها الكيان الصهيوني، واهمها الته العسكرية، فان القادم من العمليات البطولية ستهدها، وقد تؤدي الى بداية النهاية لهذا الكيان الغاصب. فالمقاومة في غزة تزداد قوة يوما بعد اخر، وتتعزز ثقة الشعب فلسطيني بها أكثر فأكثر، وسيدخل الفلسطينيون في رحابها افواجا، بما فيهم أطراف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. فلا يمكن لهذه السلطة الصمود في وجه الغضب الفلسطيني، في ظل موقفها المتخاذل والمخزي. مثلما ستنتقل الجماهير العربية، من موقف التضامن مع غزة الى المساهمة في الدفاع عنها. خاصة بعد فشل الهجوم البري لقوات الاحتلال فشلا ذريعا. حيث لم يتمكن بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، من احتلال غزة بكاملها كما وعد، ولا اجبر المقاومة، وبالذات حركة حماس، على الاستسلام او الخروج من غزة. حيث تكبدت قوات الاحتلال اضعافا مضاعفة من الخسائر المادية والبشرية، من تلك التي تكبدتها في الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى. وقد ترجم الكيان فشله، باللجوء الى تدمير غزة وقتل وجرح عشرات الالاف من المدنيين العزل.
ليس غريبا ان تلد غزة مثل هذه المقاومة البطولية. فتاريخها يشهد على ذلك. حيث وصفها الشيخ عثمان مصطفى الطباع في كتابه، اتحاف الاعزة في تاريخ غزة، بان “لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه”. في حين ذكر ياقوت الحموي في معجمه، عن مزايا غزة التي تتميز بها، هي وسكانها بصفات القوة التي لم تتوفر عليها معظم المدن الأخرى وشعوبها. كما تمتعت غزة بمكانة استثنائية في التاريخ والحضارة، وتُعدّ نقطة اجتماع او التقاء حضاري بين الشرق والغرب. حيث تمتزج فيها عناصر الثقافات المتعددة والتأثيرات الإقليمية، مما يجعلها مدينة متنوعة وغنية بالتراث والتاريخ. اما عارف العارف، شيخ المؤرخين الفلسطينيين، في كتابه “تاريخ غزة” الصادر عام 1943، فقد ذكر بان غزة مدينة عظيمة، واسمها مشتق من كلمة المنعة والقوة. وأن غزة احتضنت الفلسطينيين منذ ازمنة موغلة في القدم. واغلب الظن قبل زمن النبي إبراهيم بأربعة عشر قرنا. وتسمى ام المدن الخمسة، التي ذكرها التاريخ، وهي غزة واسدود وعسقلان وعقرون وجات، وأنها لم تدخل في حكم بني إسرائيل إلا في أيام سليمان، الذي اعتلى منصة الحكم بعد أبيه عام 960 -930 قبل الميلاد. ويقال إن فرعون أهداها إلى سليمان في عرس ابنته. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف الصراع بين الطرفين.
وإذا اجتزنا الحقب القديمة لتامل غزة في تاريخها الكفاحي المعاصر، نجد ان سكانها خلال القرن الماضي والقرن الحالي، قاوموا القوات البريطانية التي احتلت مدينتهم، خلال الحرب العالمية الأولى، ووضعتها تحت الانتداب. وبعد حرب 1948 الشهيرة بسنة النكبة، وضعت غزة تحت الإدارة المصرية. ومع ذلك انطلقت واتسعت عمليات الفدائيين، وخاصة في فترة الخمسينات من القرن العشرين، حيث شن أهل غزة أكثر من 300 هجوم فدائي على المواقع والمستوطنات، التي بناها الكيان الصهيوني على أراضي غزة.
وبعد سنة 1967، المشهورة بعام النكسة، وقعت غزة تحت الاحتلال الصهيوني. ومنذ ذلك التاريخ، عانت المدينة والمنطقة المحيطة بها من الاحتلال كثيرا. حيث استولى الكيان على مساحات واسعة، من الأراضي في قطاع غزة، واستخدمتها لإقامة المستوطنات. الامر الذي دفع اهل غزة للمقاومة الشرسة ضد المحتل، حتى ان المقاومة تمكنت ان تسيطر على غزّة في الليل، ليستعيدها الإسرائيليون في النهار، وأكدت هذه الحقيقة صحيفة “صانداي تايمز” البريطانية في أحد أعدادها عام 1969م، ووضعت عنوانا لها” غزة في الليل للفدائيين”. وفي دراسة بعنوان “المقاومة المسلحة في قطاع غزة (1967 – 1974)” ذكر زكريا العثامنة، ان مجموع العمليات التي قام بها فدائيو غزة في سنة واحدة 971 عملية، كان نصيب غزّة وحدها 730 عملية فدائية. وفي عام 1987، شهدت مدينة غزة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومن مدينة جباليا تحديدا، حيث شارك سكان المدينة بنشاط في الاحتجاجات ضد الاحتلال، وتمثل هذه الفترة تحولاً مهماً في مسار الصراع الفلسطيني-الصهيوني، حيث تصاعدت التوترات والمواجهات بين الطرفين.
بعد اتفاق أوسلو 1993، سيء الذكر، جرى الاتفاق على انسحاب قوات الاحتلال من مدينة غزة في 1994، وفي أغسطس 2005، انسحبت قوات الاحتلال من قطاع غزة، وانتقلت ادارتها الى السلطة الفلسطينية، لتنتقل بعد سنتين الى حركة حماس والفصائل الأخرى المتحالفة معها. الامر الذي دعا حكام الكيان الصهيوني الى محاصرتها برا وبحرا وجوا. ومنذ ذلك التاريخ، لم يتوقف قادة الكيان عن شن الحملات العسكرية، لأنهاء سلطة حماس بالكامل واخراجها من غزة، بمعدل عملية عسكرية كل ستة أشهر، وكان اخرها عام 2022. وقد اسفرت هذه العمليات الصهيونية بمجموعها، عن استشهدا أكثر من عشرة الاف مواطن وأكثر من 30 ألف جريح وتهديم حوالي نصف مباني غزة ومساكنها وتدمير بناها التحتية. ففي سنة 2008 وحدها، أسفرت عملية الكيان العسكرية، التي سميت “عملية الرصاص المصبوب”، عن استشهاد أكثر من 2500 مدني وأكثر من 6000 جريح من بينهم 120 طفل وأكثر من 1500 امرأة و250 شرطي، استخدمت فيها كل الة القتل والدمار، بما فيها الأسلحة المحرمة دوليا، مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، اضافة إلى أكثر من 5400 جريح. ودمرت أكثر من 10 آلاف منزل دمارا كليا أو جزئيا من خلال 60 ألف غارة جوية.
لكن غزة ومقاومتها الباسلة لم تقف مكتوفة الايدي، وانما ردت على كل واحدة من عمليات قوات المحتل بعملية عسكرية انتقامية، اسفرت عن قتل مئات من الجنود الصهاينة والاف الجرحى. وتضمنت إطلاق أكثر من عشرة الاف صاروخ على الكيان الصهيوني، بعضها تجاوز مداه 250 كيلومترا، وبعضها استهدف مطار رامون ومطار بن غوريون وكذلك نالت هذه الصواريخ من أسدود وبئر السبع وعسقلان ونتيفوت وسديروت. واليوم نعيش عملية الطوفان، التي مازالت نيرانها مشتعلة حتى هذه اللحظة. بمعنى اخر فان عملية طوفان الأقصى جاءت تتويجا لجميع معارك المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وستكون مقدمة لعمليات نوعية أخرى في المستقبل، ربما أكثر قوة من عملية الطوفان واشد ضراوة.
لقد اكتسبت المقاومة الفلسطينية عامة، وحركة حماس وحلفاؤها في غزة خاصة، عوامل قوة لم تتوفر للمقاومة الفلسطينية عبر تاريخها. فاذا كانت منظمة التحرير قد عانت من عزلة دولية، وحصار جائر وسياسات عدوانية، حشرتها زورا في خانة الإرهاب، بضغط من الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها، فان المقاومة بعد الطوفان، قد اكتسبت شرعية غير مسبوقة من شعوب الأرض كافة، ومن عدد كبير من الدول في مشارق الأرض ومغاربها. بل أصبحت قضية فلسطين، الذي وضع ملفها فوق الرفوف العالية، في صدارة اهتمام غالبية دول العالم وشعوبها. بحيث أصبحت هذه القضية الشغل الشاغل لمعظم وسائل الاعلام، المرئية والمسموعة، واغلب السياسيين والكتاب والصحفيين في العالم. حتى صار اسم فلسطين والمطالبة بحريتها، على كل شفة ولسان. في حين يواجه الكيان الصهيوني الإدانة والاستنكار من الشعوب كافة، وبعض الدول الكبرى والصغيرة في القارات الخمسة. واعتبروها دولة مجرمة تمارس الإبادة الجماعية، الى درجة ان جنوب افريقيا تقدمت بطلب الى محكمة الجنايات الدولية، تطالب بمقاضاة الكيان الصهيوني، بتهمة ارتكاب قواته العسكرية، حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
الأهم من ذلك، ان الكيان الصهيوني نفسه، بدا يعاني من ازمة داخلية حقيقية، جراء الهزائم العسكرية، التي لم تشهدها قواته في جميع الحروب التي خاضتها ضد الدول العربية، وجيوشها الجرارة، كالجيش المصري والجيش السوري. بحيث لم تجد وسيلة تسترد بها ثقة الصهاينة بالقوة العسكرية التي لا تقهر، وتمنع الهجرة الى خارج الكيان بمئات الألوف، سوى اللجوء الى محاولات لصرف الانتباه عن الهزيمة. عبر توجيه ضربات الى مواقع لحزب الله في جنوب لبنان، او اغتيال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الضاحية الجنوبية من لبنان، لمعرفتها بعدم قدرة لبنان على الرد، او تورط حزب الله بدخول المعركة على الأقل في المدى القريب.
في ضوء ذلك، سيقضي بنيامين نتنياهو بقية وجوده في سدة الحكم، مرعوبا من شبح غزة ومقاومتها الباسلة. فالقضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة، خيال مريض، لن يتحقق لو اجتمعت الى جانب الكيان، كل قوى الشر في العالم. وإذا قدر لها واجبرت على الخروج من غزة، فان ذلك لا يعني هزيمتها. لأنها ستعود كما عادت من قبل. فقد سبق للمقاومة الفلسطينية، ان خرجت من ديارها الى دول الجوار بعد حرب 1948، ثم عادت بصيغة منظمة التحرير المقاتلة، بقيادة الراحل ياسر عرفات. وبعد ان اشتد عودها، فرضت نفسها على دول الجوار واستقرت قياداتها الرئيسية وفصائلها المقاومة في الأردن، لتخرج منها في أيلول الأسود عام 1970. ثم رحلت من لبنان التي استقرت فيه بعد الأردن، الى تونس بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982. ليعودوا بقوة، من خلال عمليات بطولية واستشهادية وانتفاضات داخل فلسطين، أجبرت العالم على الاعتراف بالمنظمة. والعودة الى الضفة الغربية والقطاع بعد اتفاق أوسلو.
ستبقى غزة حتى لو هدمها الاحتلال. لان ارض غزة مصنع رجال، يتصفون بالشجاعة والاقدام ويتمتعون بإرادة حديدية وإصرار عنيد، مقترن بالعزة والشموخ. وستبنى غزة من جديد، شانها شان كل المدن، التي دمرتها وتدمرها الحروب في ارجاء العالم كافة.
المصدر: شبكة البصرة
طوفان الأقصى لم تكن الأولى في تاريخ المقاومة الفلسطينية بغزة، ولن تكون الأخيرة والمقاومة الوطنية الفلسطينية مستمرة بمقاومتها للإحتلال وصامدة على أرضها وإن التدمير لن يهزم شعبنا ، وستبقى غزة مصنع الرجال تقاوم .