لم تكن غزّة قبل نكبة 1948 إلّا المدينة الّتي صارت عاصمة للقطاع بعدها، و’القطاع‘ تسمية عسكريّة أطلقها المصريّون على غزّة، بعد أن خضعت المدينة ومحيطها الناجي من النكبة إلى الإدارة المصريّة، على إثر «اتّفاقيّة رودوس» سنة 1949[1]. واللافت في حالة غزّة لناحية علاقتها بمخيّمات النازحين إليها في النكبة، أنّ المخيّمات مع مرور الوقت قد ابتلعت غزّة المدينة التاريخيّة، إلى الحدّ الّذي لا نبالي لو قلنا فيه، بأنّ غزّة صارت ’هامش مخيّماتها‘. وهذا على خلاف باقي مدن الضفّة الغربيّة الّتي أُقيمَتْ حولها مخيّمات للنازحين – اللاجئين، مثل نابلس وجنين وطولكرم وبيت لحم، حيث ظلّت المخيّمات على هامش تلك المدن إلى يومنا. بينما ما يقارب 75% من سكّان قطاع غزّة هم نازحون – لاجئون من قرى أقضية غزّة ويافا والرملة.
على أيّ حال، لا تُعْنى هذه المادّة بغزّة القطاع بعد 1948، إنّما بغزّة المدينة قبل النكبة مع مطلع القرن العشرين في زمن الحرب.
حرب عظمى/ كبرى/ عموميّة:
على ساحل فلسطين الجنوبيّ، ظلّت غزّة مدينة مستقرّة نسبيًّا على مدار تاريخها العثمانيّ، فذاكرة الحصار والدمار اتّصلت بمدن ساحليّة أخرى مثل عكّا ويافا. وهذه الأخيرة، شهدت أكبر مذابح عرفتها فلسطين وأفظعها، في التاريخ الحديث، وتحديدًا تلك المذبحة الّتي نفّذها نابليون بونابرت بعد احتلاله يافا في عام 1799، كما ارتكب إبراهيم باشا مذبحة أخرى فيها لاحقًا في عام 1831، في ظلّ حملته المصريّة الشهيرة على سوريا.
إذا كانت عكّا تمثّل ذاكرة الحصار، فإنّ يافا تجسّد ذاكرة الذبح والدمار، بينما الهزّة الأولى الكبرى الّتي تعرّضت لها مدينة غزّة كانت في الحرب العالميّة الأولى…
إذا كانت عكّا تمثّل ذاكرة الحصار، فإنّ يافا تجسّد ذاكرة الذبح والدمار، بينما الهزّة الأولى الكبرى الّتي تعرّضت لها مدينة غزّة كانت في الحرب العالميّة الأولى؛ إذ لم يُذْكَر عن أيّ مدينة في فلسطين وبلاد الشام أن تعرّضت لتخريب وترهيب مثلما تعرّضت له غزّة وأهلها، لا بل إنّ غزّة ما قبل الحرب العظمى هي غير ما بعدها، إلى الحدّ الّذي تغيّرت فيه جغرافيّة غزّة من أصلها.
هي “الحرب العظمى” كما يسمّيها عثمان الطبّاع تارة، و”العامّة” تارة أخرى، في كتابه «إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة»[2]، بينما أطلق عليها جميل البحيري في كتابه «تاريخ حيفا» اسم “الحرب العموميّة” وأحيانًا “الكبرى”[3]. كانت هذه هي الأسماء المتداولة للحرب في فلسطين وقتذاك. وثمّة تسميات شعبيّة أخرى للحرب كانت لدى عامّة الناس مثل “حرب الإنجليز” أو “حرب تركيا” أو “حرب الترعة”[4]، يقصد بها قناة السويس وغيرها. بينما تسمية الحرب العالميّة، هي تسمية لاحقة على الحرب العالميّة الأولى، والثانية مع النصف الثاني من القرن العشرين.
كارثة خطّ الدفاع:
في شهادة للشيخ عثمان الطبّاع الّذي عايش تلك الأيّام من تاريخ غزّة مع الحرب، ومع أنّ الطبّاع قد بدا متحاملًا على الأتراك العثمانيّين أكثر من كرهه للحلفاء والإنجليز؛ إذ يورد أحوال المدينة قبل تحويلها إلى خطّ دفاع عندما هاجرها الجراد سنة 1915؛ يقول: “وفي هذا العام، زحف الجراد إلى غزّة من جهتَي الشرق والشمال، وعمّ البلاد، وأباد غالب المزروعات وأضرّ بالأشجار، وبقي مدّة رغمًا عن شديد المقاومة له من الحكومة والأهالي – حتّى صرفه الله بعد أضرار وخسائر جمّة”[5].
وفي مطلع العام التالي من أعوام الحرب على المدينة؛ أي سنة 1916، يقول صاحب «إتحاف الأعزّة»: “حصل وباء وموت كثير بأمراض متنوّعة في الرجال والنساء والأطفال؛ بسبب الغلاء وسوء الغذاء وفساد الهواء، وصار الفقراء يقتاتون من الأعشاب والترمس والقشور والجيف؛ فأحدثت فيهم الأمراض الفاتكة، ومات أكثرهم بالجوع”[6].
ويشير الشيخ الطبّاع إلى نهاية ذلك العام، في الوقت الّذي اتّخذ فيه الأتراك العثمانيّون المدينة خطًّا دفاعيًّا، ممّا جاء على معالم المدينة وبنيتها المعماريّة، فيقول: “شرعت الحكومة والعسكريّة بفتح شارع بغزّة من الغرب إلى الشرق، وأخذت في هدم المحلّات المتينة والأبنية الجسيمة، ومسحت القبور المقابلة لمزار الشيخ شعبان، وهُدِمَ جامع الوزير بسوق الخضرة، وما والاه من الحوانيت والدور، حتّى اتّصل الهدم بخان الزيت فقسمه الشارع إلى نصفين، ولحق الناس ما لا مزيد عليه من الغصّة والحسرة عندما شاهدوا الهدم والتخريب بمحلّاتهم ومساكنهم، بالقهر والسطوة من غير رحمة ولا مفاوضة ولا تعويض”[7].
سياسات الأتراك قبل الحرب وأثناءها دفعت إلى الموقف السلبيّ منهم، ولكنّ ثقل سياساتهم في غزّة تحديدًا، كان أكبر بعد اتّخاذ المدينة خطًّا دفاعيًّا ونقطة ارتكاز لمواجهة الحلفاء…
ليس هذا موقف الطبّاع وحده طبعًا من الأتراك، وإن كان في ظلّ الحرب، إنّما هو موقف أهالي البلاد عمومًا؛ فسياسات الأتراك قبل الحرب وأثناءها دفعت إلى الموقف السلبيّ منهم، ولكنّ ثقل سياساتهم في غزّة تحديدًا، كان أكبر بعد اتّخاذ المدينة خطًّا دفاعيًّا ونقطة ارتكاز لمواجهة الحلفاء، ويذكر صاحب الشهادة ذاته عن ذلك بالقول: “إنّ جمال باشا قد قرّر جعل غزّة خطًّا حربيًّا، وأمر بإخلائها وترحيل جميع أهاليها في ظرف يومين، ولو زحفًا على الركب، وأنّ كلّ مَنْ تأخّر منهم يكون حرقه وحرق داره وأمتعته، وأرسلوا مناديًا يُعْلِم الناس بذلك ليلًا؛ فصار الناس في همّ وكرب عظيم، أنساهم سائر الهموم والشدائد الّتي مرّت عليهم في سني الحرب. وعمّ الحزن والبكاء، وكثر الضجيج والعويل لعزّة الوطن، وعجزهم عن الرحيل، وذهاب رجالهم وثروتهم، وعدم المواصلات وأسباب التنقّلات، وتمنّوا الموت من هول ما لاقوه وفظائع ما عاينوه؛ فرحل جميع أهالي غزّة”[8].
تتّفق رواية الطبّاع عن تلك الأيّام مع ذاكرة أهالي المدينة الشفويّة عنها، فرغم حدّة طبع الطبّاع من الأتراك، إلّا أنّ وصفه للوقائع كان صحيحًا، خاصّة أنّه ابن المدينة وقد عاش تلك الأحداث. بينما نجد عارف العارف الّذي أرّخ لتلك المرحلة من تاريخ غزّة في كتابه، يؤكّد خراب المدينة لكن دون أن يفصّل في الوقائع الّتي وقعت على أهالي غزّة، وألمّت بهم.
الترحيل:
قبل أن تزحف قوّات الحلفاء من سيناء شمالًا نحو رمال العريش ودير البلح، وصولًا إلى خان يونس، كانت غزّة المدينة قد خلت من معظم أهلها، الّذين أُرْغِموا على تركها هائمين على وجوههم إلى القرى المحيطة بالمدينة؛ ممّا جعل بيوت الناس ومتاعهم عُرْضَةً للسلب والنهب من قِبَل الحامية العسكريّة التركيّة. ولمّا كان شتاء مطلع سنة 1917 قارصًا، اضطرّ جند الحامية التركيّة إلى خشب التدفئة؛ فجاؤوا على جميع أبواب المدينة وأشجار غرسهم على بكرة أبيها[9]، إلى الحدّ الّذي لم يسلم فيه حتّى خشب منابر مساجد غزّة، وكذلك كتب المكتبات فيها، ومنها مكتبة الشيخ الطبّاع نفسه[10].
لقد احتلّت قوّات الحلفاء مدينة غزّة، بعد معركتين دارت رحاهما على ساحل المدينة وأبوابها، وقد دخلت القوّات البريطانيّة غزّة في آذار (مارس) 1917، وكانت مدينة خاوية على عروشها.
ممّا يرويه صاحب «إتحاف الأعزّة»، أنّ الأتراك لم يكتفوا بإخلاء سكّان غزّة إلى القرى المحيطة والمجاورة، إنّما لاحقوهم هناك، وأبعدوهم خارج فلسطين إلى حمص وحماة. ومن أهالي المدينة مَنْ لاذ في مدن الخليل والقدس ونابلس ودمشق، ولكن دون أن يبيّن صاحب الرواية الأسباب وراء ترحيل بعض أهالي المدينة خارج فلسطين. ربّما هذا الترحيل قد اقتصر على بعض وجوه المدينة، والمناهضين لحكم الأتراك وسياساتهم في البلاد.
لقد احتلّت قوّات الحلفاء مدينة غزّة، بعد معركتين دارت رحاهما على ساحل المدينة وأبوابها، وقد دخلت القوّات البريطانيّة غزّة في آذار (مارس) 1917، وكانت مدينة خاوية على عروشها. وممّا يتذكّره الطبّاع عن غزّة وقتذاك متفحّمة، وكتب القرآن والحديث مبعثرة متطايرة أوراقها تملأ الطرقات، ويقول: “فتذكّرت بذلك واقعة الأندلس ووقائع التتار، وما بها اقترفوه؛ فخرجت من غزّة لهفًا، وبكيتها حزنًا وأسفًا، وحمدت الله، وسلمت، وقلت في ذلك، وتصبّرت:
إذا ضـاقتِ الدّنيـا وحاقَ بنا الـردى
وخـيّمـتِ البلـوى بكــلِّ المـصــائـبِ
تـدرّعــتُ بالـصـبــرِ الـجـمـيــلِ وإنّــهُ
لـعــدّتُـنــا فــي حادثــاتِ النــوائـــبِ
فـيـا قـلـبُ، لا تـجـــزعْ لفـرطِ مــرارةٍ
تطولُ أسًى فالصبرُ حلوُ العواقبِ
إلى اللهِ أشكـو إنْ شكوتُ لـكـربــةٍ
تحل عبرَها يـا عظـيـمَ الـمـواهـــبِ[11].
……………
هوامش:
[1] سليم عرفات المبيض، غزّة وقطاعها: دراسة خلود المكان وحضارة السكّان من العصر الحجريّ الحديث حتّى الحرب العالميّة الأولى (الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1987).
[2] الشيخ عثمان مصطفى الغزّي الطبّاع، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي أبو هاشم (مكتبة اليازجي، غزّة، 1999)، 4 مجلّدات.
[3] جميل البحيري، تاريخ حيفا (المكتبة الوطنيّة، حيفا)، ص 36.
[4] عارف العارف، تاريخ غزّة (دار أضواء السلف)، ص223.
[5] الطبّاع، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، مجلّد 1، ص313.
[6] المرجع نفسه، ص 314.
[7] المرجع نفسه، ص 314.
[8] المرجع نفسه، ص 314.
[9] العارف، ص 226.
[10] الطبّاع، ص 315.
[11] المرجع نفسه، ص 316.
ـــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48/الحرية أولًا
قراءة تاريخية موثقة عن غزة عروسة القطاع ومركزها التاريخي ودورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي منذ الخلافة العثمانية ومجازر بونابرت في يافا عام 1799 ، ستظل غزة المدينة التاريخية التي هجرها اليهود بعد الحرب العالمية الأولى لأن أهلها لم يقبلوهم .