لرئيس وزراء إسرائيل السابق إسحق رابين، جملة بائسة وشهيرة، حين قال: “أتمنّى أن أصحو ذات صباح وأرى غزّة، وقد ابتلعها البحر”… كانت غزّة وما زالت شوكة في حلق الصهاينة منذ تأسيس دولتهم حديثًا، غير أنّ مقالتنا هذه، تعنى بموقف اليهود واليهوديّة من غزّة تاريخيًّا قبل إقامة الدولة العبريّة، حيث ظلّت غزّة هاجسًا في المخيال الدينيّ – التوراتيّ لدى اليهود.
كانت غزّة على ساحل فلسطين الجنوبيّ مدينة عربيّة على مدار تاريخها منذ ما قبل الفتح العربيّ – الإسلاميّ لها في القرن السابع للميلاد. وقد حافظت غزّة على ملامحها العربيّة، والسامية قبل ذلك، منذ زمن وجودها المبكّر عند حافّة الصحراء، وعلى ساحل البحر المتوسّط، كما للمسيحيّة تاريخ أصيل في مدينة غزّة منذ بناء أوّل كنيسة فيها سنة 363م أيّام الرومان، وحكمهم في البلاد، وظلّت المسيحيّة جزءًا من تشكيل هويّة غزّة الحضاريّة إلى يوم الغزيّين هذا. قاتل مسيحيّو غزّة العرب الصليبيّين مثلما قاتلهم كلّ أهل البلاد في حينه(1)، ولم تذكر المصادر أن عاش مسيحيّو غزّة الفلسطينيون في حيّ خاصّ بهم في المدينة، إنّما عاشوا منتشرين في جميع أرجاء المدينة على مدار تاريخها الحديث، علمًا بأنّ معظم بيوتهم قد تمركزت في خطّ واحد ما بين مسجد قشقار ومسجد الشمعة في حيّ الزيتون(2).
أمّا عن اليهود في غزّة قبل النكبة، فقد عاشوا على مراحل ممتدّة ومتقطّعة من التاريخ العثمانيّ فيها، وقد ظلّت غزّة حاضرة في المخيال اليهوديّ – التوراتيّ، وذلك على خلاف الرأي القائل بغياب حضور مدينة غزّة في القراءات العقائديّة – التوراتيّة، وقد راج هذا الرأي بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيليّ منها عام 2005 (الانسحاب الأحاديّ الجانب)، إلّا أنّ مسوّغات أيديولوجيّة لسياسيّين إسرائيليّين ما يزالوا يدعون بالعلاقة العقائديّة الّتي تربط اليهوديّة بغزّة(3)، والّتي مردّها إلى حكاية بني إسرائيل مع المدينة، ثمّ “أسطورة شمشوم الجبّار”.
بنو إسرائيل وغزّة:
بحسب الرواية التوراتيّة، فإن يهوشع بن نون الّذي خلف موسى النبيّ قد تمكّن من إخضاع عدد من المدن الكنعانيّة في زمانه (1189 ق.م) باستثناء غزّة الّتي ظلّت بعيدة عن نفوذه ونفوذ اليهود عمومًا، ولم تدخل غزّة في حكم بني إسرائيل إلّا في أيّام سليمان، والّذي ظلّ الغزيّون يعتقدون على مدار التاريخ بأنّه ولد في غزّة، دون أن يرد في الكتب والأسفار ما يؤيّد ذلك(4)، ولمّا تولّى “رحبعام بن سلمان” حكم بني إسرائيل، ضعفت شوكتهم، وانقسمت البلاد إلى مملكتين: “إسرائيل” في الشمال و “يهوذا” في الجنوب، ومع أنّ غزّة كانت من نصيب يهوذا، إلّا أنّها سرعان ما شقّت عصا الطاعة عليهم، فناصبتهم وناصبوها العداء. وعاد الفلسطينيّون واستولوا عليها(5).
لقد قاوم الفلسطينيّون الجبّارين بني إسرائيل اليهود أشدّ مقاومة عرفها التاريخ، وكانت غزّة من أمّهات المدن الفلسطينيّة الّتي وقفت سدًّا منيعًا في وجوههم، وأبت الخضوع لحكمهم، فكان عدّاء وخصام، وكانت الحرب سجالًا بين الفريقين، تارة تغلب غزّة، وطورًا تغلّب على أمرها. وكثيرًا ما كان الغزيّون يحتالون على بني إسرائيل، ويسلبوهم أولادهم ويسبّونهم ثمّ يبيعونهم لعرب الجنوب سكّان أدوم، ليحملهم هؤلاء إلى أسواق مصر(6)، لذا، تحامل بنو إسرائيل على غزّة، وحملوا عليها وراحوا يصبّون عليها جام غضبهم، وتمنّوا لها الخراب والدمار. وممّا جاء في الإصحاح الأوّل من سفر عاموس حول ذلك: “هكذا قال الربّ. من أجل ذنوب غزّة الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه، لأنّهم سبوا سبيًا كاملًا لكي يسلموه إلى أدوم، فأرسل نارًا على سور غزّة، فتأكل قصورها، وأقطع الساكن في أشدود، وماسك القضيب في اشقلون، وأردّ يديّ على عقرون، فتهلك بقيّة الفلسطينيّين”.
“شمشون الجبّار”:
تتجلّى ذروة صراع بني إسرائيل مع غزّة والفلسطينيّين من خلال أسطورة “شمشون الجبّار”، وذلك في حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد. كان شمشون بحسب سفر القضاة يكره الفلسطينيّين بوجه عامّ، وغزّة بوجه خاصّ. ذهب إلى غزّة، وقد التقى فيها بامرأة “باغية”، فقيل للغزيّين: قد أتى شمشون إلى هنا، فأحاطوا به وكمّنوا له الليل كلّه عند باب المدينة، فهدأ الليل كلّه قائلين عند ضوء الصباح نقتله. فاضطجع شمشون إلى نصف الليل، ثمّ قام في نصف الليل، وأخذ مصراعي باب المدينة والقائمتين، وقلعهما من العارضة، ووضعهما على كتفه، وصعد بهما إلى رأس الجبل الّذي مقابل حبرون (الخليل).
وبحسب الرواية التوراتيّة، فقد تمكّن فلسطينيّو غزّة بعد ذلك من أسر شمشون بمساعدة دليلة الغزيّة، إلّا أنّه قتل نفسه، وقتل معه عددًا كبيرًا من أعدائه الفلسطينيّين تحت أنقاض الهيكل. وقد رضي بطل الأسطورة بهلاكه ما دام في ذلك هلاكًا لأعدائه أيضًا، ومن هنا جاء المثل الشائع إلى يومنا “عليّ وعلى أعدائي” أو “بي وبأعدائي يا ربّ” بلغة التوراة(7).
ليست حكاية شمشوم تاريخًا، بقدر ما أنّها مخيالًا مؤسّسًا في الفكر الصهيونيّ الحديث، حيث بقي يخزّ ويغزّ الصهاينة تماهيًّا مع تصوّرهم تجاه غزّة وفلسطين عمومًا، والّذي ما يزال حاضرًا في السينما العالميّة الأمريكيّة والأوروبية، وفي الأدب العالميّ كذلك(8). وللتذكير، بما قاله “إيال عالون” أحد وزراء الدولة العبريّة والمحسوب على اليسار الصهيونيّ: “… لديّ القناعة أنّ مدينة سامسون (شمشون) ستبقى مدينة إسرائيليّة، وهي جزء من إرث دولة إسرائيل”(9).
يهود المدينة:
وجد يهود غزّة فيها منذ ما قبل الفتح العربيّ- الإسلاميّ للمدينة، ومع فتح المدينة كثر اليهود في غزّة، وقد اشتهروا في صناعة الخمر واحتكاره في حينه، لأنّ الإسلام حرّم على العرب المسلمين شرب الخمر وصناعته، وممّا يذكر أنّ يهود غزّة ظلّوا يتقنون تخمير عنب الكرمة طوال القرون الوسطى من عمر المدينة، حيث كان لهم مستعمرة خاصّة بتجّار الخمر في ميناء “ميومة” على شاطئ غزّة(10).
ظلّ وجود اليهود في غزّة حاضرًا طوال المرحلة الّتي سبقت الحروب الصليبيّة وخلالها، إذ لم تتعرّض المدينة للخراب الّتي تعرّضت له باقي المدن على ساحل فلسطين، وقد اشتهر في تلك المرحلة الشاعر اليهوديّ الغزيّ “يشوع بربّي ناتان” والّذي ألّف كتابًا رثى فيه ابنه الّذي لاقى حتفه في غزّة، كما أشار إلى حاكم غزّة المستبدّ في حينه؛ ممّا دفع بكثيرين من يهود غزّة الرحيل إلى مصر قبيل اندلاع الحروب الصليبيّة(11). ومع ذلك ظلّت طائفة يهوديّة تقيم في غزّة طوال مرحلة الغزو الصليبيّ وما بعده، حيث أشار الحاخام “ميشولام” الّذي مرّ بغزّة سنة 1481 إلى جودة خبز ونبيذ مدينة غزّة واقتصار صناعة النبيذ على الطائفة اليهوديّة الّتي كان تعدادها يساوي 60 عائلة، وكنيسًا صغيرًا لها في المدينة(12).
وفي القرنين السادس والسابع عشر، كانت الطائفة اليهوديّة في غزّة تشتغل في الصناعة الحرفيّة، والتجارة مع مصر، ووجدت في إيطاليا صورة لغزّة رسمها باليد رسّام يهوديّ سنة 1598، وقد كتب عليها الكلمات التالية: “غزّة بلد شمشون مدينة جميلة”(13)، ممّا يبيّن لنا الأثر الدينيّ- التوراتيّ في مخيال يهود غزّة طوال كلّ ذلك الزمن، أمّا عن عمل يهود غزّة في الزراعة، فقد كان قليلًا في حينه، بدليل أنّ رجال الطائفة ظلّوا يسألون حاخامهم الأكبر عمّا إذا كان عليهم دفع ضريبة الأرض(14).
لم تشر المصادر إلى الوجود اليهوديّ في غزّة قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد غادر يهود غزّة المدينة كلّيًّا مع حملة نابليون على البلاد واحتلالها بعد مصر سنة 1799. وفي غضون عقد من الزمن بعد الحملة لم يبق يهوديّ واحد في غزّة، وقد ظلّ كنيسهم مهجورًا ينعق فوقه وفوق مقبرة اليهود بوم الخراب. وممّا يذكر أنّ إبراهيم باشا حين احتلّ البلاد بعد حملته عليها سنة 1831، قد قام ببناء سور عسقلان من حجارة كنيس يهود غزّة المهدّم فيها(15).
في رحلته سنة 1857، لم يشر “طومسون” حين زار المدينة في ذلك العام إلى وجود اليهود فيها، بينما أشار القسّ النمساويّ “جات” الّذي زار غزّة سنة 1887 إلى الحيّ اليهوديّ في المدينة، فيما شوماخر الّذي زارها قبل بعام واحد من زيارة “جات” سنة 1886 لم يأت على ذكر وجود اليهود في غزّة، باستثناء بعض العائلات المسيحيّة القليلة في غزّة ودير البلح(16). ممّا يعني اختلاف المصادر والوثائق حول وجود يهود في غزّة خلال هذه المرحلة، ومردّ هذا ربّما إلى قلّة عدد اليهود في غزّة وقتئذ، خصوصًا بعد ترك الطائفة للمدينة لمدّة تجاوزت الثمانية عقود على إثر حملة نابليون، الأمر الّذي صعب على بعض الرحّالة الّذين زاروا المدينة من التعرّف لليهود فيها.
سبتيّة غزّة:
وبحسب صاحب تاريخ غزّة، فإنّ عام 1880 هو عام عودة اليهود للتوطّن والعيش في غزّة من جديد. ولمّا زارها الحاخام “يحيى ثيل بريل” سنة 1882 وجد فيها يهودًا تجّارًا، كان أكثرهم يتعاطون تجارة “الحنظل” الّذي يصنعون من جذوره الأدوية، ويصدّرونها للخارج. وقد زار بريل حارّة اليهود في غزّة، ورأى على بعض الأبواب “الكلمات العشرة”، كما وشاهد جماعة من المسيحيّين الكاثوليك يبنون كنيسة لهم على أنقاض الكنيس اليهوديّ المتهدّم، وقد قرأ على حجر من الحجارة الّتي رفعها العمّال عند حفرهم أساس تلك الكنيسة الكلمات التالية مكتوبة باللغة العبريّة: “ليرسلني الإله الّذي أنقذني من كلّ سوء إلى أورشليم”(17).
صار وجود اليهود في غزّة صار أكثر وضوحًا مع مطلع القرن العشرين، فقد أشار السيّد “مناير” سنة 1906 إلى وجود ما يقارب 160 يهوديًّا في غزّة، منهم ثلاثون من السفارديم، وذلك دون أيّ فعاليّة اقتصاديّة – حرفيّة أو اجتماعيّة تذكر(18). قبيل الحرب الكبرى (1914-1918) توطّن عدد غير قليل من العائلات اليهوديّة في غزّة، وتمّ بناء مدرسة وكنيس وحمّام خاصّة بهم خلال هذه المرحلة، كما كان يطلق على شارع البحر في غزّة اسم “السبتيّة” نسبة لليهود فيه، كما كانت حارّة في غزّة تعرف بحارة اليهود وقتها(19).
وفق سجلّات بلديّة غزّة، فإنّ أوّل من اقترح فكرة إقامة سينما في مدينة غزّة في العشرينيّات، كانا أخوين يهوديّين من سكّان المدينة، كما أنّ خيّاطًا يهوديًّا من يهود غزّة أطلق اسمًا على أزياء الممرّضين والأطبّاء في المدينة(20).
بعد وعد بلفور، وأحداث سنة 1921 في ظلّ الاستعمار البريطانيّ على البلاد، ثمّ ثورة البرّاق سنة 1929 بدأ يهود غزّة بمغادرة المدينة إلى المستعمرات الصهيونيّة الجديدة، وفي إحصاء بريطانيّ لمدينة غزّة سنة 1931، يظهر فيه أنّ عدد يهود غزّة الباقين فيها هو 54 يهوديًّا فقط، ثمّ غادر هؤلاء غزّة لاحقًا مع الثورة الكبرى (1936-1939) على الاستعمار والهجرة الصهيونيّة للبلاد، مع العلم أنّ رئيس بلديّة غزّة في حينه رشدي الشوّا، قد سعى إلى حماية العائلات اليهوديّة في المدينة بصفتها عائلات غزيّة(21)، بينما في رواية أخرى يقال بأنّ حكومة السلطات البريطانيّة، وبدافع من الحركة الصهيونيّة، قد أرغمت اليهود الباقين في المدينة على مغادرتها، وقد غادروها فعلًا بحراسة بريطانيّة، وبلا رجعة(22).
…………………
الهوامش:
1 _ مبيض، سليم عرفات، غزّة وقطاعها: خلود المكان وحضارة السكّان، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 1987، ص 390.
2 _ المرجع السابق، ص391.
3 _ السقّا، أباهر، غزّة: التاريخ الاجتماعيّ تحت الاستعمار البريطانيّ، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، بيروت، 2018، ص 231.
4 _ العارف، عارف، تاريخ غزّة، نفائس المطبوعات المنوّرة، ص34.
5 _ المرجع السابق، ص35.
6 _ المرجع السابق، ص36.
7 _ المرجع السابق، ص37.
8 _ السقّا، أباهر، المرجع السابق، ص 231.
9 _ المرجع السابق، ص231.
10 _ العارف، عارف، تاريخ غزّة، ص 40.
11_ المرجع السابق، ص 40.
12 _ المرجع السابق، ص 41.
13 _ المرجع السابق، ص 41.
14 _ المرجع السابق، ص 42.
15 _ الطباع، الشيخ عثمان مصطفى الغزي، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي أبو هاشم، مكتبة اليازجي، غزّة، 1999، ج1، ص311.
16 _ مبيّض، سليم عرفات، غزّة وقطاعها، ص 390.
17 _ العارف، عارف، تاريخ غزّة، ص 42.
18 _ المرجع السابق، ص 43.
19 _ المرجع السابق، ص 43.
20 _ السقّا، أباهر، المرجع السابق، ص 228.
21 _ المرجع السابق، ص 228.
22 _ العارف، عارف، المرجع السابق، ص 44.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48/ الحرية أولًا
قراءة تاريخية لفلسطين وغزة بالأخص ، تظهر بأن الوجود اليهودي لم يكن بغزة لعصيانه عن فتوحاتهم ودور شمشون وعودة اليهود للتوطين بالمدينة 1880 وإن كانت هناك عائلات تعمل بالتجارة سابقها ـ قراءة تحتاج لتوثيق أكثر لأن وجود بضع عائلات لا تعطي الأحقية بالتوطين الذي تم بعد وعد بلفور “مِنّ مَنّ لا يملك الى من لا يستحق” .