لم يعد غريبًا أو مفاجئًا أن يخرج علينا شخصٌ عربي اللسان- يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويؤدي مناسك الحج- يدافع عن الكيان الصهيوني ويبرّر جرائمه في حق الشعب الفلسطيني. ففي كل حرب تشنها تل أبيب على الفلسطينيين، يخرج هؤلاء من جحورهم ليهاجموا المقاومة الفلسطينية، ويلوموها عمّا فعلته بأبناء الشعب الفلسطيني ويتناسوا، عن عمد، أصل الحكاية ومنبع الصراع، وهو الاحتلال الممتد على مدار أكثر من سبعة عقود.
وقد كشفت الحرب الحالية على قطاع غزة، حتى الآن، عن أكثر من 16 ألف شهيد، وثلاثة أضعافهم من المصابين، ناهيك عن تدمير نصف مباني القطاع، ورغم ذلك لا يكترث المتصهينون العرب بما جرى، ولو حدث في مكان آخر لقطّعوا أنفسهم بكاء وحزنًا على الضحايا. ويبدو أننا أمام تيار جديد ظهر ويترعرع في أوساط النخب العربية، يمكن أن نسميه بتيار “الصهيونية العربية”، الذي يضمّ طيفًا واسعًا من المتصهينين العرب، سواء كانوا سياسيين، أم إعلاميين، أو باحثين، أو نشطاء.
حدثت لقاءات بين رجال دين إسرائيليين، وبعض رجال الأزهر، كان أشهرَها لقاءُ شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي مع السفير الإسرائيلي في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 1997، ثم لقاؤُه مع كبير حاخامات الطائفة الأشكنازية الإسرائيلية في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه
ظاهرة “المتصهينين” العرب في حاجة للفهم والتفكيك والتحليل. فالأمر يتجاوز مسألة “الكيد” السياسي، والخلاف الأيديولوجي مع المقاومة الفلسطينية، كي يصل إلى حالة من “التحول” الإستراتيجي في توجهات النخبة العربية، بحيث يبدو الأمر وكأننا أمام تيار جديد له أجندة واضحة مدعومة محليًا وإقليميًا ودوليًا.
ويمكن القول؛ إن تيار “الصهيونية العربية” هو بمثابة الثمرة العطنة التي أنتجها مسار “أوسلو” الذي بدأ قبل ثلاثة عقود، وكان يهدف، بالأساس، إلى الاعتراف بإسرائيل، ونزع سلاح المقاومة الفلسطينية مقابل لا شيء: لا سلامَ ولا أرضَ ولا حقوق. وهو المسار الذي تبنته بعض الحكومات العربية التي طبّعت مع الاحتلال الإسرائيلي، وسعت إلى تسويق التطبيع وترويجه رسميًا وشعبيًا. وقد اعتمدت هذه الحكومات لتحقيق ذلك على آليتَين:
أولاهما: سياسية، وذلك من خلال إقامة علاقات دبلوماسية منفردة مع إسرائيل، سواء بفتح سفارات أم قنصليات ومكاتب تجارية مع الكيان الصهيوني.
وثانيتهما: ثقافية وإعلامية، وذلك بتشجيع بعض مثقفيها ونخبتها للترويج لمسألة التطبيع مع إسرائيل، وقبول التعايش معها قبل التوصل إلى اتفاق نهائي يعطي الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. وهو ما حدث، بالفعل، حيث قام بعض المثقفين العرب بزيارة تل أبيب، والتقوا مسؤولين إسرائيليين رسميين وغير رسميين طوال العقود الماضية. وهي الظاهرة التي زادت بشكل واضح بعد الموجة الأخيرة للتطبيع مع إسرائيل التي قامت بها الإمارات، والبحرين، والمغرب.
ويمكن القول؛ إن تيار “الصهيونية العربية” أو “المتصهينين العرب” مر بثلاث مراحل أساسية: أولها مرحلة “كوبنهاغن”، التي بدأت مع عقد مؤتمر كوبنهاغن الذي ضم أكثر من ستين شخصية إسرائيلية، ومثلهم من الجانبين المصري والعربي، وعقد يومي 29 و30 يناير/كانون الثاني عام 1997، في العاصمة الدانماركية، تحت رعاية الاتحاد الأوروبي والحكومة الدانماركية. وقد أثار المؤتمر لغطًا كبيرًا في الأوساط العربية، آنذاك، ورآه كثيرون “نكوصًا” وارتدادًا عن الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل.
كان ذلك المؤتمر بمثابة أول رصاصة تطلقها إسرائيل على جدار المقاطعة الشعبية العربية. وكما هو متوقع، وظفت تل أبيب المؤتمر إعلاميًا وسياسيًا من أجل كسر حاجز العزلة العربية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت “جماعة كوبنهاغن” بمثابة رأس الحربة لتيار عربي، يزداد حضورًا وتأثيرًا في أوساط النخبة، وظيفته الأساسية ترويج مسألة التطبيع مع إسرائيل، ونبذ المقاومة الفلسطينية، ودعم عملية السلام، وإن لم تحقق شيئًا.
اعلان
لذا، تلا مؤتمر كوبنهاغن زيارات ولقاءات بين مسؤولين إسرائيليين ومثقفين مصريين وعرب. بل وحدثت لقاءات بين رجال دين إسرائيليين، وبعض رجال الأزهر، كان أشهرَها لقاءُ شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي مع السفير الإسرائيلي في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 1997، ثم لقاؤُه مع كبير حاخامات الطائفة الأشكنازية الإسرائيلية في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.
كان الهدف الأساسي من الزيارة الضغط على شيخ الأزهر، من أجل إدانة أعمال المقاومة الفلسطينية وإصدار فتوى بشأن ذلك. وقد دافع شيخ الأزهر عن لقاءاته مع الحاخامات الإسرائيليين، بعد أن انتقده بعض رموز المقاطعة الشعبية لإسرائيل. وعلى الرغم من جمود مسار “أوسلو”- ووصول عملية السلام إلى حائط مسدود، طوال العقود الماضية- فقد تحولت جماعة “كوبنهاغن” من مجموعة أفراد إلى “تيار” يضم مثقفين وإعلاميين وأدباء ورجال دين، لا يدافع فقط عن منهج “السلام المجاني” مع إسرائيل، وإنما يدين المقاومة الفلسطينية ويشجبها.
المرحلة الثانية لتطور تيار “المتصهينين العرب” حدثت، قبل حوالي عقد ونصف، وتحديدًا بعد وصول حركة حماس إلى السلطة عام 2006. فقد كان ذلك بمثابة نقطة تحول لم تأتِ على هوى هؤلاء المتصهينين الذين كانوا يراهنون على سقوط خيار المقاومة. لذا، لم يكن غريبًا أن ينتقد هؤلاء الانتفاضة الثانية التي بدأت في سبتمبر/أيلول 2000، واعتبروها غير ذات جدوى. وفي كل مرَّة كانت تحدث فيها مواجهة مع العدو الإسرائيلي، كان كثيرون من هؤلاء يَنْبَرون لانتقاد المقاومة، وتسفيه عملياتها، باعتبارها لا تنجز شيئًا.
هذا ما بدا بوضوح خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وعلى غزة أعوام: 2008 و2012 و2014، و2021. لذلك كان منطقيًا أن ينتفض هؤلاء بعد صمود المقاومة الفلسطينية وأدائها العسكري النوعي طوال الأسابيع الماضية، ما أحيا فكرة المقاومة من جديد، ودفع بالقضية الفلسطينية مجددًا إلى مركز الاهتمام العربي والعالمي.
الآن وصلنا إلى المرحلة الثالثة في تطور خطاب “المتصهينين العرب”، وهي مرحلة: “الجهر بالسوء من القول”، والتي لا ينتقد فيها هؤلاء المقاومة فحسب، وإنما أيضًا يدافعون عن إسرائيل، ويتبنون خطابها نفسه تجاه المقاومة الفلسطينية، باعتبارها إرهابًا يجب القضاء عليه، في حين يجهر بعضهم بضرورة نزع سلاح المقاومة دون استحياء. وعلى عكس ما كان يحدث في الماضي- حين كان هؤلاء يعبرون عن مواقفهم على استحياء- فقد باتوا، الآن، أكثر جرأة وسفورًا في التعبير عن أفكارهم وانحيازاتهم. ولعل مصدر القلق أن هؤلاء المتصهينين الجدد نجحوا في بث سموم خطابهم ومنطقهم وأفكارهم بين قطاعات شعبية لا بأس بها، مستفيدين، في ذلك، من حالة النكوص التي يعيشها “الربيع العربي” وعملية خلط الأوراق التي تجري بين المقاومة المشروعة والإرهاب من جهة، وبين سيطرتهم ومن يدعمونهم على وسائل الإعلام من جهة أخرى.
وقد كشفت الحرب الحالية على قطاع غزة، أن ظاهرة “المتصهينين العرب” ليست أمرًا طارئًا، أو مؤقتًا، سوف ينتهي عندما تضع الحرب أوزارها، وإنما هو تيار ينمو ويترعرع بين ظهرانَينا، ويزداد قوة وحضورًا وتأثيرًا، وهو ما يتطلب عدم الاستخفاف به أو التقليل من تأثيره. وإذا مددنا الخط على استقامته، فسوف يتضح لنا أن هذا التيار هو نتيجة لعملية ممنهجة ومنظمة، تجري رعايتها وحمايتها من أطراف عديدة (رسمية وغير رسمية)، هدفها الأساسي تزييف الوعي، وقلب الحقائق، وإنهاء الصراع مع إسرائيل شعبيًا، بعد أن انتهى رسميًا. ولربما يأتي يوم قريب يطالب فيه هؤلاء المتصهينون العرب حكوماتهم صراحة بالقتال جنبًا إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وهو ما يجب عدم استبعاده أو الاستخفاف به مطلقًا.
المصدر: الجزيرة نت
ملاحظة حول مقال:
“تفكيك الصهيونية العربية”.
يقدم الدكتور خليل العناني تتبعا مهما للمحطات الرئيسية في نمو “الصهيونية العربية”، وفي مسار هذا النمو يمكن للقارئ أن يستدعي أسماء ومساهمات عشرات الشخصيات في هذا المسار.
وعلى أهمية هذا العرض وعلى أهمية الدور المركزي لاتفاقية أوسلو في إطلاق مسار “الصهيونيون العرب” إلا أن البداية الأهم، والفاتحة الحقيقية لهذا المسار كانت فيما أقدم عليه نظام الرئيس المصري الراحل أنور السادات حينما وقع اتفاقية كامب ديفيد، ومساره للسلام مع العدو الصهيوني، ولولا هذه الفاتحة لكانت كل جهود “الصهينة” بقيت تحت الطاولة. كما كانت قبل هذه الفاتحة.
صحيح أن المقاومة الشعبية، ومقاومة الهيئات والمؤسسات الشعبية والمدنية المصرية للتطبيع مع العدو بقيت صامدة طوال الفترة السابقة، لكن مسار التطبيع كان يكشف دائما عن”صهاينة جدد” من أبناء جلدتنا همهم الترويج لهذا المسار والدفاع عنه.
بوضع هذه البداية بمكانها ووزنها الطبيعي نكون أن صورة عامة متكاملة لهذا التطور الذي كشف عن واحدة من أخطر الثغرات الثقافية والفكرية في بنيان مجتمعاتنا، وليس خطأ القول إن “نصر أكتوبر”، تسرب من خلال هذه الثغرة، حتى لم يبق منه شيئا، وبات هذا النصر وكأنه المدخل لهزيمة المشروع النهضوي لمصر وللأمة العربية كلها، بل والمدخل لانكسار موجة حركة التحرر٩ العالمية
د. مخلص الصيادي
قراءة واقعية من قبل د.خليل العناني عن المتصهينين العرب وطبيعة نشأتهم ومراحلها الثلاث ، والتعقيب من أخونا د.مخلص الصيادي حول كيفية تفكيك “الصهيونية العربية” بعد تصحيح الانطلاقة من السادات وكامب ديفيد وليس مؤتمر كوبنهاغن وذلك من خلال المقاومة الشعبية .