على خلاف الحروب الأربعة السابقة على قطاع غزّة، لا تتم الحرب الإسرائيلية الحالية بغطاء من واشنطن، وضوء أخضر منها فحسب، بل بما يشبه تحريضاً من الإدارة الديمقراطية على شنها. والخطاب الذي تحدّث به الرئيس جو بايدن جاء مفعما بالصدمة الشديدة غير القابلة للإخفاء من التجرؤ على جيش الاحتلال الإسرائيلي في الذكرى الخمسين لحرب 1973. ومنذ صبيحة السبت، 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بدت الدوائر الرسمية في واشنطن في حالة انقباض شديد وارتباك أشدّ، وكأن اختراق السياج الحدودي قد أصاب العقيدة الاستراتيجية الأميركية في الصميم. وفي الأيام الخمسة الأولى على “طوفان الأقصى”، تحادث بايدن مع رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو أربع مرّات، وتوافقا على شنّ حرب شاملة ضد القطاع المكتظّ بسكّانه، وجل هؤلاء ممن جرى تهجيرهم إلى القطاع خلال حرب 1948، مع دعوة بايدن إلى تقليل الإصابات في صفوف المدنيين، وليس تجنّب استهدافهم.
لا تشارك واشنطن في الحرب بجنودها، بل بالدعم السخي متعدّد الأوجه، لتمكين نتنياهو من إعادة ترميم صورة حكومته وترميم القبب الحديدية باهظة الكلفة مع استعراض للبوارج وحاملتي طائرات في البحر المتوسط. وعلى وهج التبشير بالحرب تبدّدت الخلافات بين بايدن ونتنياهو، فالأولوية هي للحرب على القطاع، وللدعم السياسي والدبلوماسي والمالي لها.
في ظروف سابقة، ومنها حروب إسرائيلية، كانت الأطراف العربية المعنية تلجأ إلى واشنطن لكبح جماح الإسرائيليين، غير أن الطرف الأشد جموحا في هذه الآونة هو الطرف الأميركي نفسه، فبمن يستعين العرب والفلسطينيون لوقف آلة الحرب المتوحشة؟ ولهذا السبب، بدا وزراء الخارجية العرب في موقف صعب لدى اجتماعهم في القاهرة، تحت مظلة جامعة الدول العربية، الأربعاء الماضي، ولم تصدر عن الاجتماع قرارات تفيد بتحرّك عربي مزمع نحو المراكز الدولية، وعلى الأخص نحو واشنطن، كما كان يحدُث في مثل هذه الظروف. وزاد الأمر سوءاً أن أطرافاً أوروبية رئيسية اتّخذت مواقف مماثلة للموقف الأميركي، وأعلنت تأييدها لتل أبيب في “الدفاع عن النفس”، بما يدلّ على مباركتها الحرب، خلافا لمواقف أوروبية سابقة ومتكرّرة لطالما أفادت بأن انسداد الأفق أمام الحلول السياسية للصراع والإجراءات الأحادية لتل أبيب يغذّي العنف والتطرّف. لقد شاءت لندن وبرلين وباريس وروما وفيينا وغيرها أن تُخرج الحدث المدوّي باقتحام المستوطنات من سياقه الأوسع، وأن تعزل هذا الحدث عن كل ما سبقه من وقائع صارخة يتشكّل منها سياق الصراع منذ 75 عاما. وبدلاً من ذلك، ظهرت في الوعي الغربي الرسمي تماثلات ومشتركات بين دول الغرب والدولة العبرية ذات محتوى “ثقافي” واستراتيجي، باعتبار دولة الاحتلال كياناً ذا نمط غربي، حتى لو تعرّضت الكنائس لتعدّيات مشينة من متطرّفين يهود، وحتى لو بصق هؤلاء على مواكب دينية مسيحية في القدس. وقد شاؤوا بدلاً من ذلك تظهير “حماس” باعتبارها حركة متطرّفة، علماً أن الحركة جنحت في السنوات الأخيرة نحو التسويات التي تكفل قيام دولة مستقلة على الأراضي المحتلة في 1967، فيما يزدهر التطرّف، بسائر منوعاته وتشكيلاته في المجتمع الإسرائيلي، وعلى المستويين السياسي والعسكري، إلى درجةٍ يتم فيها رفض التعامل مع صيغ التسوية جميعها، مع إنكارٍ صفيقٍ لوجود شعب فلسطين بملايينه السبعة على أرضه الانتدابية، وهو ما يعبّر عنه وزيران على الأقل في حكومة نتنياهو التي يتفق العالم على نعتها بأنها حكومة أقصى اليمين المتطرّف. لقد تناست حكومات غربية هذا الواقع، وتجاهلت مخاطره فجأة، حين اهتزّت صورة الدولة العبرية، وحين ظهر جيشها في صورة مهلهلة، وحين استيقظت عواصم غربية على عقيدتها القديمة أن وجود الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين حاجة غربية “عميقة”، رغم انكشاف هذه الدولة قلعة للعنصرية والتمييز والأبارتهايد.
لن يكون مستغَربا في هذه الظروف أن يقع مزيد من التقارب العربي مع الصين وروسيا، إذ تتّخذان موقفا نقديا صريحا من سلوك الدولة العبرية المناوئة للسلام. فما دامت واشنطن، ومعها عواصم أوروبية، لا تتورّع عن اتباع سياسات ذات معايير مزدوجة، حيال بؤر التوتر والصراع في عالمنا، فإن أحداً لن يسعه أن يلوم أحداً على فوضى المعايير التي تتسم بها أولاً سياسات المراكز الدولية، وما دام مسؤول، مثل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، لا يلحظ وجوداً لشعب فلسطين، ويعمى، مرّة بعد مرّة، عن رؤية الاحتلال الإسرائيلي، لن يكون مستغرّباً بعدئذ أن يقف كثرة من العرب مع الرئاسة الروسية والقيادة الصينية، ما دام الغرب الرسمي يرفض التخلي عن رؤاه الكولونيالية السابقة، وعن دعمه غير المحدود أقدم احتلال في الشرق الأوسط، وقبل أن تظهر حركة حماس إلى الوجود، وأن تنشأ الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
من شأن العمى السياسي الذي أصاب إدارة بايدن، ومعها عواصم أوروبية، إزاء هذه التطوّرات أن يزجّ المنطقة في مزيد من الصراعات والعنف، وأن يخلط الأوراق والمعادلات، أو على نحو لا يمكن التنبؤ به، كما لا يمكن التنبؤ بموعد الزلازل، غير أن مكانة الغرب، في جميع الأحوال، سوف تتقهقر. وتكفي الإشارة هنا إلى تراجع مصداقية منابر رئيسية من الإعلام الغربي، تحدّثت في الأيام الماضية عن “قتل إسرائيليين وموت فلسطينيين”، متخلّية عن أبسط المعايير المهنية والأخلاقية.
لا نعود، وفق هذه المستجدات، إلى أجواء حرب 1973 فقط، بل إلى أجواء حرب 1967، حين اصطفّ معظم الغرب مع الدولة المُعتدية، بما في ذلك وسائل إعلام رئيسية، فمرحى للسادة في عواصم الأنوار ممن يعيدون استنساخ أسوأ صور الماضي، ويراهنون على الماضي لا المستقبل.
المصدر: العربي الجديد
الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين هرولوا جميعاً لنجدت صنيعتهم “الكيان الصه/يوني” بعد أن أحسوا خطر انهياره بعد #طوفان_الاقصى فلم يعد الدعم كافٍ ولا التأييد ليشاركوا بالتحريض والتخطيط و.. لمجازر بغزة ، متجاوزين كل القوانين والمواثيق والعهود و… ليكونوا زعماء العهر السياسي الاممي بامتياز .